البحر المحيط، ج ١، ص : ٢٤٣
يمكن أن يقال ما نقله ابن عطية عن المهدوي من جواز أن يكون أعلم أفعل بمعنى التفضيل، وخفض ما بالإضافة البتة.
غَيْبَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ : تقدم الكلام على هذه الألفاظ الثلاثة، واختلف في الغيب هنا، فقيل : غيب السموات : أكل آدم وحواء من الشجرة، لأنها أول معصية وقعت في السماء، وغيب الأرض : قتل قابيل هابيل، لأنها أول معصية كانت في الأرض. وقيل :
غيب السموات ما قضاه من أمور خلقه، وغيب الأرض ما فعلوه فيها بعد القضاء. وقيل :
غيب السموات ما غاب عن ملائكته المقربين وحملة عرشه مما استأثر به تعالى من أسرار الملكوت الأعلى، وغيب الأرض ما أخفاه عن أنبيائه وأصفيائه من أسرار ملكوته الأدنى وأمور الآخرة الأولى.
وَأَعْلَمُ ما تُبْدُونَ وَما كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ
قال علي وابن مسعود وابن عباس، رضوان اللّه عليهم أجمعين : ما تبدون : الضمير للملائكة، وما كنتم تكتمون : يعني إبليس.
فيكون من خطاب الجمع، ويراد به الواحد نحو : إِنَّ الَّذِينَ يُنادُونَكَ «١». وروي أن إبليس مرّ على جسد آدم بين مكة والطائف قبل أن ينفخ فيه الروح فقال : لأمر ما خلق هذا، ثم دخل من فيه وخرج من دبره وقال : إنه خلق لا يتمالك لأنه أجوف، ثم قال للملائكة الذين معه :
أرأيتم إن فضل هذا عليكم وأمرتم بطاعته ما تصنعون؟ قالوا : نطيع اللّه، فقال إبليس في نفسه : واللّه لئن سلّطت عليه لأهلكنه، ولئن سلّط عليّ لأعصينه
، فهذا قوله تعالى :
وَأَعْلَمُ ما تُبْدُونَ الآية، يعني : من قول الملائكة وكتم إبليس. وقال الحسن وقتادة : ما أبدوه هو قولهم : أَتَجْعَلُ فِيها، وما كتموه قولهم : لن يخلق اللّه أكرم عليه منا، وقيل : ما أبدوه قولهم : أَتَجْعَلُ فِيها، وما كتموه أضمروه من الطاعة للّه والسجود لآدم. وقيل : ما أبدوه هو الإقرار بالعجز، وما كتموه الكراهية لاستخلاف آدم عليه السلام. وقيل : هو عام فيما أبدوه وما كتموه من كل أمورهم، وهذا هو الظاهر. وأبرز الفعل في قوله : وَأَعْلَمُ ليكون متعلقه جملة مقصودة بالعامل، فلا يكون معمولها مندرجا تحت الجملة الأولى، وهو يدل على الاهتمام بالإخبار، إذ جعل مفردا بعامل غير العامل، وعطف قوله وَما كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ هو من باب الترقي في الإخبار، لأن علم اللّه تعالى واحد لا تفاوت فيه بالنسبة إلى شيء من معلوماته، جهرا كان أو سرا، ووصل ما بكنتم يدل على أن الكتم وقع فيما
(١) سورة الحجرات : ٤٩/ ٤.