البحر المحيط، ج ١، ص : ٢٤٩
الكسائي أن التخريج من الاسم، وأن زيدا غير محكوم عليه بقيام ولا غيره، فيحتمل أن يكون قد قام، وأن يكون غير قائم. ومذهب الفراء أن الاستثناء من القول، والصحيح مذهبنا، وهو أن الاسم مستثنى من الاسم وأن الفعل مستثنى من الفعل. ودلائل هذه المذاهب مذكورة في كتب النحو، ومفعول أبى محذوف لأنه يتعدى بنفسه إلى مفعول واحد، قال الشاعر :
أبى الضيم والنعمان يحرق نابه عليه فأفضى والسيوف معاقله
والتقدير : أبى السجود، وأبى من الأفعال الواجبة التي معناها النفي، ولهذا يفرغ ما بعد إلا كما يفرغ لفعل المنفي، قال تعالى : وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ «١»، ولا يجوز :
ضربت إلا زيدا على أن يكون استثناء مفرغا لأن إلا لا تدخل في الواجب، وقال الشاعر :
أبى اللّه إلا عدله ووفاءه فلا النكر معروف ولا العرف ضائع
وأبى زيد الظلم : أبلغ من لم يظلم، لأن نفي الشيء عن الشخص قد يكون لعجز أو غيره، فإذا قلت : أبى زيد كذا، دل على نفي ذلك عنه على طريق الامتناع والأنفة منه، فلذلك جاء قوله تعالى : أَبى، لأن استثناء إبليس لا يدل إلا على أنه لم يسجد، فلو اقتصر عليه لجاز أن يكون تخلفه عن السجود لأمر غير الإباء، فنص على سبب كونه لم يسجد وهو الإباء والأنفة.
وَكانَ مِنَ الْكافِرِينَ قيل : كان بمعنى صار، وقيل : على بابها أي كان في علم اللّه لأنه لا خلاف أنه كان عالما باللّه قبل كفره. فالمعنى : أنه كان في علم اللّه سيكون من الكافرين. قال أبو العالية : من العاصين، وصلة أل هنا ظاهرها الماضي، فيكون قد سبق إبليس كفار، وهم الجن الذين كانوا في الأرض، أو يكون إبليس أول من كفر مطلقا، إن لم يصح أنه كان كفار قبله، وإن صح، فيفيد أول من كفر بعد إيمانه، أو يراد الكفر الذي هو التغطية للحق، وكفر إبليس قيل : جهل سلبه اللّه ما كان وهبه من العلم، فخالف الأمر ونزع يده من الطاعة، وقيل : كفر عناد ولم يسلب العلم بل كان الكبر مانعه من السجود.
قال ابن عطية : والكفر عنادا مع بقاء العلم مستبعد، إلا أنه عندي جائز لا يستحيل مع خذل اللّه لمن شاء، انتهى كلامه.
وهذا الذي ذكره جوازه واقع بالفعل. هذا فرعون كان عالما بوحدانية اللّه وربوبيته
(١) سورة التوبة : ٩/ ٣٢.