البحر المحيط، ج ١، ص : ٢٦
الإدراك، احتاج المتأخرون إلى إظهار ما انطوى عليه كتاب اللّه تعالى، من غرائب التركيب، وانتزاع المعاني، وإبراز النكت البيانية، حتى يدرك ذلك من لم تكن في طبعه، ويكتسبها من لم تكن نشأته عليها، ولا عنصره يحركه إليها، بخلاف الصحابة والتابعين من العرب، فإن ذلك كان مركوزا في طباعهم، يدركون تلك المعاني كلها، من غير موقف ولا معلم، لأن ذلك هو لسانهم وخطتهم وبيانهم، على أنهم كانوا يتفاوتون أيضا في الفصاحة وفي البيان. ألا ترى إلى
قوله صلّى اللّه عليه وسلّم، حين سمع كلام عمرو بن الأهتم في الزبرقان :«إن من البيان لسحرا».
وقد أشرنا فيما تقدم إلى تفاوت العرب في الفصاحة.
وقد آن أن نشرع فيما قصدنا، وننجز ما به وعدنا، ونبدأ برسم لعلم التفسير، فإني لم أقف لأحد من علماء التفسير على رسم له، فنقول : التفسير في اللغة الاستبانة والكشف.
قال ابن دريد : ومنه يقال للماء الذي ينظر فيه الطبيب تفسره وكأنه تسمية بالمصدر، لأن مصدر فعل جاء أيضا على تفعله، نحو جرب تجربة، وكرم تكرمة، وإن كان القياس في الصحيح من فعل التفعيل، كقوله تعالى : وَأَحْسَنَ تَفْسِيراً «١». وينطلق أيضا التفسير على التعرية للانطلاق. قال ثعلب : تقول فسرت الفرس عريته لينطلق في حصره، وهو راجع لمعنى الكشف، فكأنه كشف ظهره لهذا الذي يريده منه من الجري.
وأما الرسم في الاصطلاح، فنقول : التفسير علم يبحث فيه عن كيفية النطق بألفاظ القرآن، ومدلولاتها، وأحكامها الإفرادية والتركيبية، ومعانيها التي تحمل عليها حالة التركيب، وتتمات لذلك. فقولنا علم هو جنس يشمل سائر العلوم. وقولنا يبحث فيه عن كيفية النطق بألفاظ القرآن هذا هو علم القراءات. وقولنا ومدلولاتها، أي مدلولات تلك الألفاظ، وهذا هو علم اللغة الذي يحتاج إليه في هذا العلم. وقولنا وأحكامها الإفرادية والتركيبية هذا يشمل علم التصريف، وعلم الإعراب، وعلم البيان، وعلم البديع، ومعانيها التي تحمل عليها حالة التركيب شمل بقوله التي تحمل عليها ما لا دلالة عليه بالحقيقة، وما دلالته عليه بالمجاز، فإن التركيب قد يقتضي بظاهره شيئا، ويصد عن الحمل على الظاهر صاد، فيحتاج لأجل ذلك أن يحمل على غير الظاهر، وهو المجاز. وقولنا، وتتمات لذلك، هو معرفة النسخ، وسبب النزول، وقصة توضح بعض ما انبهم في القرآن، ونحو ذلك.
(١) سورة الفرقان : ٢٥/ ٣٣.