البحر المحيط، ج ١، ص : ٢٨٢
ذلك، قاله الحسن والزجاج، أو إدراكهم مدة النبي صلّى اللّه عليه وسلّم، أو علم التوراة، أو جميع النعم على جميع خلقه وعلى سلفهم وخلفهم في جميع الأوقات على تصاريف الأحوال. وأظهر هذه الأقوال ما اختص به بنو إسرائيل من النعم لظاهر قوله : الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ، ونعم اللّه على بني إسرائيل كثيرة : استنقذهم من بلاء فرعون وقومه، وجعلهم أنبياء وملوكا، وأنزل عليهم الكتب المعظمة، وظلل عليهم في التيه الغمام، وأنزل عليهم المن والسلوى.
قال ابن عباس : أعطاهم عمودا من النور ليضيء لهم بالليل، وكانت رؤوسهم لا تتشعث، وثيابهم لا تبلى. وإنما ذكروا بهذه النعم لأن في جملتها ما شهد بنبوة محمد صلّى اللّه عليه وسلّم، وهو :
التوراة والإنجيل والزبور، ولئن يحذروا مخالفة ما دعوا إليه من الإيمان برسول اللّه والقرآن، ولأن تذكير النعم السالفة يطمع في النعم الخالفة، وذلك الطمع يمنع من إظهار المخالفة.
وهذه النعم، وإن كانت على آبائهم، فهي أيضا نعم عليهم، لأن هذه النعم حصل بها النسل، ولأن الانتساب إلى آباء شرفوا بنعم تعظيم في حق الأولاد. قال بعض العارفين :
عبيد النعم كثيرون، وعبيد المنعم قليلون، فاللّه تعالى ذكر بني إسرائيل نعمه عليهم، ولما آل الأمر إلى أمة محمد صلّى اللّه عليه وسلّم ذكر المنعم فقال : فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ «١»، فدل ذلك على فضل أمة محمد صلّى اللّه عليه وسلّم على سائر الأمم، وفي قوله : نِعْمَتِيَ، نوع التفات، لأنه خروج من ضمير المتكلم المعظم نفسه في قوله : بِآياتِنا إلى ضمير المتكلم الذي لا يشعر بذلك. وفي إضافة النعمة إليه إشارة إلى عظم قدرها وسعة برها وحسن موقعها، ويجوز في الياء من نعمتي الإسكان والفتح، والقراء السبعة متفقون على الفتح. وأنعمت : صلة التي، والعائد محذوف، التقدير : أنعمتها عليكم.
وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ. العهد : تقدم تفسيره لغة في قوله : الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ «٢»، ويحتمل العهد أن يكون مضافا إلى المعاهد وإلى المعاهد. وفي تفسير هذين العهدين أقوال : أحدها : الميثاق الذي أخذه عليهم من الإيمان به والتصديق برسله، وعهدهم ما وعدهم به من الجنة. الثاني : ما أمرهم به وعهدهم ما وعدهم به، قاله ابن عباس. الثالث : ما ذكر لهم في التوراة من صفة رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، وعهدهم ما وعدهم به من الجنة، رواه أبو صالح عن ابن عباس. الرابع : أداء الفرائض وعهدهم قبولها والمجازاة عليها. الخامس : ترك الكبائر وعهدهم غفران الصغائر. السادس : إصلاح الدين وعهدهم إصلاح آخرتهم. السابع : مجاهدة النفوس وعهدهم المعونة على ذلك. الثامن : إصلاح
(١) سورة البقرة : ٢/ ١٥٢.
(٢) سورة البقرة : ٢/ ٢٧.