البحر المحيط، ج ١، ص : ٢٩٢
إذ المقصود أن من كان من أهل العلم والاطلاع على ما جاءت به الرسل، لا يصلح له لبس الحق بالباطل ولا كتمانه. وهذه الحال، وإن كان ظاهرها أنها قيد في النهي عن اللبس والكتم، فلا تدل بمفهومها على جواز اللبس والكتم حالة الجهل، لأن الجاهل بحال الشيء لا يدري كونه حقا أو باطلا، وإنما فائدتها : أن الإقدام على الأشياء القبيحة مع العلم بها أفحش من الإقدام عليها مع الجهل بها. وقال القشيري : لا تتوهموا، إن يلتئم لكم جمع الضدّين والكون في حالة واحدة في محلين، فإما مبسوطة بحق، وإما مربوطة بحط، وَلا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْباطِلِ، تدليس، وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ تلبيس، وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ أن حق الحق تقديس، انتهى. وفي هذه الآية دليل أن العالم بالحق يجب عليه إظهاره، ويحرم عليه كتمانه.
وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ : تقدّم الكلام على مثل هذا في أوّل السورة في قوله : وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ «١»، ويعني بذلك صلاة المسلمين وزكاتهم، فقيل : هي الصلاة المفروضة، وقيل : جنس الصلاة والزكاة. قيل : أراد المفروضة، وقيل :
صدقة الفطر، وهو خطاب لليهود، فدل ذلك على أن الكفار مخاطبون بفروع الشريعة. قال القشيري : وأقيموا الصلاة : احفظوا أدب الحضرة، فحفظ الأدب للخدمة من الخدمة، وآتوا الزكاة، زكاة الهمم، كما تؤدى زكاة النعم، قال قائلهم :
كلّ شيء له زكاة تؤدّى وزكاة الجمال رحمة مثلي.
وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ : خطاب لليهود، ويحتمل أن يراد بالركوع : الانقياد والخضوع، ويحتمل أن يراد به : الركوع المعروف في الصلاة، وأمروا بذلك وإن كان الركوع مندرجا في الصلاة التي أمروا بإقامتها، لأنه ركوع في صلاتهم، فنبه بالأمر به، على أن ذلك مطلوب في صلاة المسلمين. وقيل : كنى بالركوع عن الصلاة : أي وصلوا مع المصلين، كما يكنى عنها بالسجدة تسمية للكلّ بالجزء، ويكون في قوله مع دلالة على إيقاعها في جماعة، لأن الأمر بإقامة الصلاة أوّلا لم يكن فيها إيقاعها في جماعة.
والراكعون : قيل النبي صلّى اللّه عليه وسلّم وأصحابه، وقيل : أراد الجنس من الراكعين.
وفي هذه الجمل، وإن كانت معطوفات بالواو التي لا تقتضي في الوضع ترتيبا ترتيب
(١) سورة التوبة : ٩/ ٧١.