البحر المحيط، ج ١، ص : ٣٤٨
واتفق ابن عطية والزمخشري على أنه يقدر محذوف قبل هذه الجملة، فقدره ابن عطية، فعصوا ولم يقابلوا النعم بالشكر، قال : والمعنى وما وضعوا فعلهم في موضع مضرّة لنا، ولكن وضعوه في موضع مضرّة لهم حيث لا يجب. وقدره الزمخشري : فظلموا بأن كفروا هذه النعم، وما ظلمونا، قال : فاختصر الكلام بحذفه لدلالة وما ظلمونا عليه، انتهى. ولا يتعين تقدير محذوف، كما زعما، لأنه قد صدر منهم ارتكاب قبائح من اتخاذ العجل إلها، ومن سؤال رؤية اللّه على سبيل التعنت، وغير ذلك مما لم يقص هنا. فجاء قوله تعالى : وَما ظَلَمُونا جملة منفية تدل على أن ما وقع منهم من تلك القبائح لم يصل إلينا بذلك نقص ولا ضرر، بل وبال ذلك راجع إلى أنفسهم ومختص بهم، لا يصل إلينا منه شيء.
وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ : لكن هنا وقعت أحسن موقع، لأنه تقدم قبلها نفي وجاء بعدها إيجاب، نحو قوله تعالى : وَما ظَلَمْناهُمْ وَلكِنْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ «١»، وكذلك العكس، نحو قوله تعالى : أَلا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهاءُ وَلكِنْ لا يَعْلَمُونَ «٢»، أعني أن يتقدم إيجاب ثم يجيء بعدها نفي، لأن الاستدراك الحاصل بها إنما يكون يدل عليه ما قبلها بوجه ما، وذلك أنه لما تقرر أنه قد وقع منهم ظلم، فلما نفى ذلك الظلم أن يصل إلى اللّه تعالى بقيت النفس متشوّفة ومتطلعة إلى ذكر من وقع به الظلم، فاستدرك بأن ذلك الظلم الحاصل منهم إنما كان واقعا بهم، وأحسن مواقعها أن تكون بين المتضادين، ويليه أن تقع بين النقيضين، ويليه أن تقع بين الخلافين، وفي هذا الأخير خلاف بين النحويين. أذلك تركيب عربي أم لا؟ وذلك نحو قولك : ما زيد قائم، ولكن هو ضاحك، وقد تكلم على ذلك في علم النحو. واتفقوا على أنها لا تقع بين المتماثلين نحو : ما خرج زيد ولكن لم يخرج عمرو. وطباق الكلام أن يثبت ما بعد لكن على سبيل ما نفي قبلها، نحو قوله : وَما ظَلَمْناهُمْ وَلكِنْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ، لكن دخلت كانوا هنا مشعرة بأن ذلك من شأنهم ومن طريقتهم، ولأنها أيضا تكون في كثير من المواضع تستعمل حيث يكون المسند لا ينقطع عن المسند إليه، نحو قوله : وَكانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً «٣» فكان المعنى : ولكن لم يزالوا ظالمي أنفسهم بكثرة ما يصدر منهم من المخالفات. ويظلمون : صورته صورة المضارع، وهو ماض من حيث المعنى، وهذا من المواضع التي يكون فيها المضارع بمعنى الماضي.

_
(١) سورة هود : ١١/ ١٠١. [.....]
(٢) سورة البقرة : ٢/ ١٣.
(٣) سورة الأحزاب : ٣٣/ ٤٠.


الصفحة التالية
Icon