البحر المحيط، ج ١، ص : ٣٧٩
ادخلوا الأرض المقدسة. وقيل : أراد بقوله : مصرا وإن كان غير معين مصر فرعون، وهو من إطلاق النكرة، ويراد بها المعين، كما تقول : ائتني برجل، وأنت تعني به زيدا. قال أشهب، قال لي مالك : هي مصر قريتك مسكن فرعون. وأجاز من وقفنا على كلامه من المعربين والمفسرين أن تكون مصر هذه المنوّنة هي الاسم العلم. والمراد بقوله : أَنْ تَبَوَّءا لِقَوْمِكُما بِمِصْرَ بُيُوتاً «١»، قالوا : وصرف، وإن كان فيه العلمية والتأنيث، كما صرف هند ودعد لمعادلة أحد السببين، لخفة الاسم لسكون وسطه، قاله الأخفش، أو صرف لأنه ذهب باللفظ مذهب المكان، فذكره فبقي فيه سبب واحد فانصرف. وشبهه الزمخشري في منع الصرف، وهو علم بنوح ولوط حيث صرفا، وإن كان فيهما العلمية والعجمة لخفة الاسم بكونه ثلاثيا ساكن الوسط، وهذا ليس كما ذهبوا إليه من أنه مشبه لهند، أو مشبه لنوح، لأن مصر اجتمع فيه ثلاثة أسباب وهي : التأنيث والعلمية والعجمة. فهو يتحتم منع صرفه بخلاف هند، فإنه ليس فيه سوى العلمية والتأنيث، على أن من النحويين من خالف في هند، وزعم أنه لا يجوز فيه إلا منع الصرف، وزعم أنه لا دليل على ما ادعى النحويون من الصرف في قوله :
لم تتلفع بفضل ميزرها دعد ولم تسق دعد في العلب
وبخلاف نوح، فإن العجمة لم تعتبر إلا في غير الثلاثي الساكن الوسط، وأما إذا كان ثلاثيا ساكن الوسط فالصرف. وقد أجاز عيسى بن عمر منع صرفه قياسا على هند، ولم يسمع ذلك من العرب إلا مصروفا، فهو قياس على مختلف فيه مخالف لنطق العرب، فوجب اطراحه. وقال الحسن بن بحر : المراد بقوله مصرا، البيت المقدس، يعني أن اللفظ، وإن كان نكرة، فالمراد به معين، كما قلنا في قول من قال : إنه أراد به وإن كان نكرة مصر المعينة. وأمّا من قرأ مصر بغير تنوين، فالمراد مصر العلم، وهي دار فرعون.
واستبعد بعض الناس قول من قال : إنها مصر فرعون، قال : لأنهم من مصر خرجوا، وأمروا بالهبوط إلى الأرض المقدسة لقتال الجبارين فأبوا، فعذبوا بالتيه أربعين سنة لتخلفهم عن قتال الجبارين، ولقولهم : فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقاتِلا إِنَّا هاهُنا قاعِدُونَ «٢»، فماتوا جميعا في التيه، وبقي أبناؤهم، فامتثلوا أمر اللّه، وهبطوا إلى الشام، وقاتلوا الجبارين، ثم عادوا إلى البيت المقدّس. ولم يصرّح أحد من المفسرين والمؤرخين أنهم هبطوا من التيه إلى
(١) سورة يونس : ١٠/ ٨٧.
(٢) سورة المائدة : ٥/ ٢٤.