البحر المحيط، ج ١، ص : ٤٣٢
التفاتا، إذ خرج من الخطاب في قوله تعالى : ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ إلى الغيبة في قوله :
يَعْلَمُونَ. وحكمة هذا الالتفات أنه أعرض عن مخاطبتهم، وأبرزهم في صورة من لا يقبل عليهم بالخطاب، وجعلهم كالغائبين عنه، لأن مخاطبة الشخص ومواجهته بالكلام إقبال من المخاطب عليه، وتأنيس له، فقطع عنهم مواجهته لهم بالخطاب، لكثرة ما صدر عنهم من المخالفات.
وقد تضمنت هذه الآيات الكريمة فصولا عظيمة، ومحاورات كثيرة، وذلك أن موسى، على نبينا وعليه الصلاة والسلام، شافههم بأن اللّه تعالى يأمرهم بذبح البقرة، وذلك امتحان من اللّه تعالى لهم، فلم يبادروا لامتثال أمر اللّه تعالى، وأخرجوا ذلك مخرج الهزؤ، إذ لم يفهموا سر الأمر. وكان ينبغي أن يبادروا بالامتثال، فأجابهم موسى باستعاذته باللّه الذي أمره أن يكون ممن جهل، فيخبر عن اللّه بما لم يأمره به، فردّ عليهم بأن استعمال الهزء في التبليغ عن اللّه تعالى، وفي غيره، وهو يستعيذ منه، فرجعوا إلى قوله، وتعنتوا في البقرة، وفي أوصافها، وكان يجزئهم أن يذبحوا بقرة، إذ المأمور به بقرة مطلقة، فسألوا ما هي؟ وسألوا موسى أن يدعو اللّه تعالى أن يبينها لهم، إذ كان دعاؤه أقرب للإجابة من دعائهم، فأخبر عن اللّه تعالى بسنها. ثم خاف من كثرة سؤالهم، ومن تعنتهم، كما جاء، إنما أهلك بني إسرائيل كثرة سؤالهم، واختلافهم على أنبيائهم، فبادر إلى أمرهم بأن يفعلوا ما يؤمرون، حتى قطع سؤالهم، فلم يلتفتوا إلى أمره، وسألوا أن يسأل اللّه تعالى ثانيا عن لونها، إذ قد أخبروا بسنها، فأخبرهم عن اللّه تعالى بلونها، ولم يأمرهم ثانيا أن يفعلوا ما يؤمرون به، إذ علم منهم تعنتهم، لأنهم خالفوا أمر اللّه أولا في قوله : إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً، وخالفوا أمر موسى ثانيا في قوله : فَافْعَلُوا ما تُؤْمَرُونَ. فلم يكن إلا أن أبقاهم على طبيعتهم من كثرة السؤال. فسألوا ثالثا أن يسأل اللّه عنها، فأخبرهم عن اللّه تعالى بحالها بالنسبة إلى العمل وباقي الأوصاف التي ذكرها، فحينئذ صرحوا بأن موسى جاء بالحق الواضح الذي بين أمر هذه البقرة، فالتمسوها حتى حصلوها وذبحوها امتثالا لأمر اللّه تعالى، وذلك بعد ترديد كثير وبطء عظيم، وقبل ذلك ما قاربوا ذبحها، بل بقوا متطلبين أشياء ليتأخر عنهم تحصيلها وذبحها.
ثم أخبر تعالى عنهم بقتل النفس، وتدافعهم فيمن قتلها، واختلافهم في ذلك، فأمروا بأن يضربوا ذلك القتيل ببعض هذه البقرة المذبوحة، فضربوه فحيي بإذن اللّه، وانكشف لهم سرّ أمر اللّه بذبح البقرة، وأنه ترتب على ذلك من الأمر المعجز الخارق، ما


الصفحة التالية
Icon