البحر المحيط، ج ١، ص : ٤٨٢
عيسى بنفخه، ورباه في جميع الأحوال، وكان يسير معه حيث سار، وكان معه حيث صعد إلى السماء.
أَفَكُلَّما جاءَكُمْ رَسُولٌ بِما لا تَهْوى أَنْفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ : الهمزة أصلها للاستفهام، وهي هنا للتوبيخ والتقريع. والفاء لعطف الجملة على ما قبلها، واعتنى بحرف الاستفهام فقدم، والأصل فأكلما. ويحتمل أن لا يقدر قبلها محذوف، بل يكون العطف على الجمل التي قبلها، كأنه قال : ولقد آتينا يا بني إسرائيل، آتيناكم ما آتيناكم. فكلما جاءكم رسول.
ويحتمل أن يقدر قبلها محذوف، أي فعلتم ما فعلتم من تكذيب فريق وقتل فريق. وقد تقدم الكلام على كلما في قوله تعالى : كُلَّما رُزِقُوا مِنْها «١»، فأغنى عن إعادته. والناصب لها قوله : اسْتَكْبَرْتُمْ. والخطاب في جاءكم يجوز أن يكون عاما لجميع بني إسرائيل، إذ كانوا على طبع واحد من سوء الأخلاق، وتكذيب الرسل، وكثرة سؤالهم لأنبيائهم، والشك والارتياب فيما أتوهم به، أو يكون عائدا إلى أسلافهم الذين فعلوا ذلك. وسياق الآيات يدل عليه أو إلى من بحضرة رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم من أبنائهم، لأنهم راضون بفعلهم، والراضي كالفاعل. وقد كذبوا رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم فيما جاء به، وسقوه السم ليقتلوه، وسحروه. وبما :
متعلق بقوله : جاءكم، وما موصولة، والعائد محذوف، أي لا تهواه. وأكثر استعمال الهوى فيما ليس بحق، ومنه هذه الآية. وأسند الهوى إلى النفس، ولم يسند إلى ضمير المخاطب، فكان يكون بما لا تهوون إشعارا بأن النفس يسند إليها غالبا الأفعال السيئة، إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ «٢»، فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ «٣»، قالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ «٤». استكبرتم : استفعل هنا : بمعنى تفعل، وهو أحد معاني استفعل.
وفسر رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم الكبر بأنه سفه الحق وغمط الناس.
والمعنى قيل : استكبرتم عن إجابته احتقارا للرسول. أو استبعادا للرسالة، وفي ذلك ما كانوا عليه من طبيعة الاستكبار الذي هو محل النقائص ونتيجة الإعجاب. وهو نتيجة الجهل بالنفس المقارن للجهل بالخالق، وإن ذلك كان يتكرر منهم بتكرر مجيء الرسل إليهم، وهو كما ذكرنا استكبار بمعنى التكبر، وهو مشعر بالتكلف والتفعل، لذلك لا أنهم يصيرون بذلك كبراء عظماء، بل يتفعلون ذلك ولا يبلغون حقيقته، لأن الكبرياء إنما هي للّه تعالى، فمحال أن يتصف بها غيره حقيقة.
(١) سورة البقرة : ٢/ ٢٥.
(٢) سورة يوسف : ١٢/ ٥٣.
(٣) سورة المائدة : ٥/ ٣٠.
(٤) سورة يوسف : ١٢/ ١٨.