البحر المحيط، ج ١، ص : ٤٩٨
المراد به النبي صلّى اللّه عليه وسلّم، قاله ابن عباس : قالوا، ويطلق الناس، ويراد به الرجل الواحد، وهذا لا يكون إلا على مجاز وتنزيل الرجل الواحد منزلة الجماعة. فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ : أي سلوه باللسان فقط، وإن لم يكن بالقلب، قاله ابن عباس. أو تمنوه بقلوبكم واسألوه بألسنتكم، قاله قوم. أو فسلوه بقلوبكم على أردإ الحزبين من المؤمنين أو منهم. وروي عن ابن عباس وغيره، وقرأ الجمهور : فتمنوا الموت، بضم الواو، وهي اللغة المشهورة في مثل : اخشوا القوم. ويجوز الكسر تشبيها لهذه الواو بواو : ولو استطعنا، كما شبهوا واو لو بواو اخشوا، فضموا، فقالوا : لو استطعنا. وقرأ ابن أبي إسحاق : فتمنوا الموت بالكسر، وحكى أبو علي الحسن بن إبراهيم بن يزداد، عن أبي عمرو، أنه قرأ : فتمنوا الموت، بفتح الواو، وحركها بالفتح طلبا للتخفيف، لأن الضمة والكسرة في الواو يثقلان. وحكى أيضا عن أبي عمرو :
واختلاس ضمة الواو.
إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ في دعواكم أن الجنة لكم دون غيركم. وجواب الشرط محذوف، أي فتمنوا الموت. وعلق تمنيهم على شرط مفقود، وهو كونهم صادقين، وليسوا بصادقين في أن الجنة خالصة لهم دون الناس، فلا يقع التمني : والمقصود من ذلك التحدي وإظهار كذبهم، وذلك أن من أيقن أنه من أهل الجنة، اختار أن ينتقل إليها، وأن يخلص من المقام في دار الأكدار، وأن يصل إلى دار القرار. كما روي عمن شهد له رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم بالجنة، كعثمان، وعليّ، وعمار، وحذيفة، أنهم كانوا يختارون الموت، وكذلك الصحابة كانت تختار الشهادة. وفي الحديث الصحيح أنه قال صلّى اللّه عليه وسلّم :«ليتني أحيا ثم أقتل ثم أحيا فأقتل».
لما علم من فضل الشهادة. وقال، لما بلغه قتل من قتل ببئر معونة :
«يا ليتني غودرت معهم في لحف الجبل».
وروي عن حذيفة أنه كان يتمنى الموت، فلما احتضر قال : حبيب جاء على فاقة. وعن عمار، لما كان بصفين قال : غدا نلقى الأحبة، محمدا وصحبه. وعن عليّ أنه كان يطوف بين الصفين بغلالة، فقال له ابنه الحسن : ما هذا بزيّ المحاربين، فقال : يا بنيّ لا يبالي أبوك، أعلى الموت سقط، أم عليه سقط الموت.
وكان عبد اللّه بن رواحة ينشد، وهو يقاتل الروم :
يا حبذا الجنة واقترابها طيبة وبارد شرابها
والروم روم قد دنا عذابها وفي قصتي قتل عثمان وسعيد بن جبير ما يدل على اختيارهما الشهادة، وذلك أن عثمان جاءه جماعة من الصحابة فقالوا له : نقاتل عنك؟ فقال لهم : لا، وكان له قريب من


الصفحة التالية
Icon