البحر المحيط، ج ١، ص : ٥١٣
فعداوته لا وجه لها، لأنه هو الذي نزل بالقرآن المصدق للكتب، والهادي والمبشر، كمن آمن. ومن كان بهذه المثابة فينبغي أن يحب ويشكر، إذ كان به سبب الهداية والتنويه بما في أيديهم من كتب اللّه، أو من كان عدوّا لجبريل، فسبب عداوته أنه نزل القرآن المصدّق لكتابهم، والملزم لهم اتباعك، وهم لا يريدون ذلك، ولذلك حرّفوا ما في كتبهم من صفاتك، ومن أخذ العهود عليهم فيها، بأن يتبعوك. والفرق بين كل واحد من هذين التقديرين : أن التقدير الأول موجب لعدم العداوة، والتقدير الثاني كأنه كالعذر لهم في العداوة كقولك : إن عاداك زيد، فقد آذيته وأسأت إليه.
عَلى قَلْبِكَ : أتى بلفظ على، لأن القرآن مستعل على القلب، إذ القلب سامع له ومطيع، يمتثل ما أمر به، ويجتنب ما نهى عنه. وكانت أبلغ من إلى، لأن إلى تدل على الانتهاء فقط، وعلى تدل على الاستعلاء. وما استعلى على الشيء يضمن الانتهاء إليه.
وخص القلب، ولم يأت عليك، لأن القلب هو محل العقل والعلم وتلقي الواردات، أو لأنه صحيفته التي يرقم فيها، وخزانته التي يحفظ فيها، أو لأنه سلطان الجسد. وفي الحديث :«إن في الجسد مضغة».
ثم
قال أخيرا :«ألا وهي القلب».
أو لأن القلب خيار الشيء وأشرفه، أو لأنه بيت اللّه، أو لأنه كنى به عن العقل إطلاقا للمحل على الحال به، أو عن الجملة الإنسانية، إذ قد ذكر الإنزال عليه في أماكن : ما أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقى «١» وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ
«٢»، أو يكون إطلاقا لبعض الشيء على كله، أقوال سبعة. وأضاف القلب إلى الكاف التي للخطاب، ولم يضفه إلى ياء المتكلم، وإن كان نظم الكلام يقتضيه ظاهرا، لأن قوله : مَنْ كانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ، هو معمول لقول مضمر، التقدير : قل يا محمد قال اللّه من كان عدوا لجبريل فإنه نزله على قلبك. وإلى هذا نحا الزمخشري بقوله : جاءت على حكاية كلام اللّه تعالى، كأنه قيل : قل ما تكلمت به من قولي :
مَنْ كانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلى قَلْبِكَ، وكلامه فيه تثبيج. وقال ابن عطية : يحسن في كلام العرب أن يحرز اللفظ الذي يقوله المأمور بالقول، ويحسن أن يقصد المعنى بقوله، فيسرده مخاطبة له، كما تقول : قل لقومك لا يهينوك، فكذلك هذه الآية، ونحو من هذا قول الفرزدق :
ألم تر أني يوم جوّ سويقة دعوت فنادتني هنيدة ماليا
(١) سورة طه : ٢٠/ ٢.
(٢) سورة النساء : ٤/ ١١٣. [.....]