البحر المحيط، ج ١، ص : ٥٢١
التوراة، أقوال أربعة. وإذا فسر بعيسى، فتصديقه هو بالتوراة، وإذا فسر بالرسالة، فنسبة المجيء والتصديق إلى الرسالة على سبيل التوسع والمجاز. وقرأ ابن أبي عبلة : مصدّقا بالنصب على الحال، وحسن مجيئها من النكرة كونها قد وصفت بقوله : مِنْ عِنْدِ اللَّهِ «١». لِما مَعَهُمْ : هو التوراة. وقيل : جميع ما أنزل إليهم من الكتب، كزبور داود، وصحف الأنبياء التي يؤمنون بها.
نَبَذَ فَرِيقٌ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ : الكتاب الذي أوتوه هو التوراة، وهو مفعول ثان لأوتوا، على مذهب الجمهور، ومفعول أول على مذهب السهيلي. وقد تقدّم القول في ذلك. كِتابَ اللَّهِ : هو مفعول بنبذ. فقيل : كتاب اللّه هو التوراة. ومعنى نبذهم له :
اطراح أحكامه، أو اطراح ما فيه من صفة رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم، إذ الكفر ببعض، كفر بالجميع.
وقيل : الإنجيل، ونبذهم له : اطراحه بالكلية. وقيل : القرآن، وهذا أظهر، إذ الكلام مع الرسول. فصار المعنى : أنه يصدّق ما بين أيديهم من التوراة، وهم بالعكس، يكذبون ما جاء به من القرآن ويطرحونه. وأضاف الكتاب إلى اللّه تعظيما له، كما أضاف الرسول إليه بالوصف السابق، فصار ذلك غاية في ذمهم، إذ جاءهم من عند اللّه بكتابه المصدّق لكتابهم، وهو شاهد بالرسول والكتاب، فنبذوه وَراءَ ظُهُورِهِمْ، وهذا مثل يضرب لمن أعرض عن الشيء جملة. تقول العرب : جعل هذا الأمر وراء ظهره ودبر أذنه، وقال الفرزدق :
تميم بن مرّ لا تكونن حاجتي بظهر ولا يعيا عليك جوابها
وقالت العرب ذلك، لأن ما جعل وراء الظهر فلا يمكن النظر إليه، ومنه :
وَاتَّخَذْتُمُوهُ وَراءَكُمْ ظِهْرِيًّا «٢». وقال في المنتخب : النبذ والطرح والإلقاء متقاربة، لكن النبذ أكثر ما يقال فيما يئس، والطرح أكثر ما يقال في المبسوط وما يجري مجراه، والإلقاء فيما يعتبر فيه ملاقاة بين شيئين.
كَأَنَّهُمْ لا يَعْلَمُونَ : جملة حالية، وصاحب الحال فريق، والعامل في الحال نبذ، وهو تشبيه لمن يعلم بمن يجهل، لأن الجاهل بالشيء لا يحفل به ولا يعتد به، لأنه لا شعور له بما فيه من المنفعة. ومتعلق العلم محذوف، أي كأنهم لا يعلمون أنه كتاب اللّه، لا يداخلهم فيه شك لثبوت ذلك عندهم وتحققه، وإنما نبذوه على سبيل المكابرة

_
(١) سورة البقرة : ٢/ ٧٩.
(٢) سورة هود : ١١/ ٩٢.


الصفحة التالية
Icon