البحر المحيط، ج ١، ص : ٥٧٥
دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُوا ما عَلَوْا تَتْبِيراً
«١»، ولأن النبي صلّى اللّه عليه وسلّم أخبر أن ذا السويقتين من الحبشة يهدم الكعبة حجرا حجرا. فلما رأى أن هذا يعارض الآية، إذا جعلناها خبرا لفظا، ومعنى حملها على الأمر ودلالتها على الأمر لنا بالإخافة لهم بعيدة جدا، وإذا حملنا الآية على ما ذكرناه، بطلت هذه الأقوال. وأما قوله تعالى : فَإِذا جاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ، فليس ذلك كناية عن يوم القيامة، وسيأتي الكلام عليه في موضعه، إن شاء اللّه تعالى. وقوله : أُولئِكَ، حمل على معنى من في قوله : وَمَنْ أَظْلَمُ، ولا يختص الحمل فيها على اللفظ وعلى المعنى بكونها موصولة، بل هي كذلك في سائر معانيها من الوصل والشرط والاستفهام، وكلاهما موجود فيها في سائر معانيها في كلام العرب. أما إذا كانت موصوفة نحو : مررت بمن محسن لك، فليس في محفوظي من كلام العرب مراعاة المعنى فيها. وقد تكلمنا قبل على كونها موصوفة. وقال بعض الناس في قوله تعالى : وَمَنْ أَظْلَمُ : الآية، دليل على منع دخول الكافر المسجد، ثم ذكر اختلاف الفقهاء في ذلك، وهي مسألة تذكر في علم الفقه، وليس في الآية ما يدل على ما ذكره على ما فهمهنا نحن من الآية.
لَهُمْ فِي الدُّنْيا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابٌ عَظِيمٌ : هذا الجزاء مناسب لما صدر منهم.
أما الخزي في الدنيا فهو الهوان والإذلال لهم، وهو مناسب للوصف الأول، لأن فيه إخمال المساجد بعدم ذكر اللّه وتعطيلها من ذلك، فجوزوا على ذلك بالإذلال والهوان. وأما العذاب العظيم في الآخرة، فهو العذاب بالنار، وهو إتلاف لهياكلهم وصورهم، وتخريب لها بعد تخريب كُلَّما نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْناهُمْ جُلُوداً غَيْرَها لِيَذُوقُوا الْعَذابَ «٢». وهو مناسب للوصف الثاني، وهو سعيهم في تخريب المساجد، فجوزوا على ذلك بتخريب صورهم وتمزيقها بالعذاب. ولما كان الخزي الذي يلحقهم في الدنيا لا يتفاوتون فيه حكما، سواء فسرته بقتل أو سبي للحربي، أو جزية للذمي، لم يحتج إلى وصف. ولما كان العذاب متفاوتا، أعني عذاب الكافر وعذاب المؤمن، وصف عذاب الكافر بالعظم ليتميز من عذاب المؤمن. وقيل : الخزي هو الفتح الإسلامي، كالقسطنطينية وعمورية ورومية، وقيل : جزية الذمي، قاله ابن عباس، وقيل : طردهم عن المسجد الحرام، وقيل :
قتل المهدي إياهم إذا خرج، قاله المروزي، وقيل : منعهم من المساجد. قال بعض معاصرينا : إن على كل طائفة من الكفار في الدنيا خزيا. أما اليهود والنصارى، فقتل قريظة، وإجلاء بني النضير، وقتل النصارى وفتح حصونهم وبلادهم، وإجراء الجزية
(١) سورة الإسراء : ١٧/ ٧.
(٢) سورة النساء : ٤/ ٥٦.