البحر المحيط، ج ١، ص : ٥٨٥
من أنه لا يوجد من اللّه فعل البتة، إذ لا بد أن يوجد قبله أفعال، هي أقاويل لا غاية لها، وذلك مستحيل. ولا يجوز أن يحمل على المجاز، إذ ذلك إنما يكون في الجمادات، ولا يكون فيمن يصح منه القول إلا بدليل. ويقوي ذلك أن المصدر فيه الذي هو قولنا من قوله :
إِنَّما قَوْلُنا لِشَيْءٍ إِذا أَرَدْناهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ «١»، وكد بمصدر آخر، وهو أن نقول، وأهل العربية مجمعون، على أنهم إذا أكدوا الفعل بالمصدر كان حقيقة، ولذلك جاء قوله :
وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسى تَكْلِيماً «٢»، إذ كان اللّه تعالى متولي تكليمه. وقد قيل : إن معنى فإنما يقول له كن فيكون بكونه. انتهى كلام المهدوي. وقال في المنتخب : كن فيكون ليس المراد أنه تعالى يقول كن، فحينئذ يكون ذلك الشيء، فإن ذلك فاسد من وجوه، فلا بد من تأويله، وفيه وجوه : الأول : وهو الأقوى، أن المراد نفاذ سرعة قدرة اللّه في تكوين الأشياء، وإنما يخلقها لا لفكرة، ونظيره قالَتا أَتَيْنا طائِعِينَ «٣». الثاني : أنها علامة يعقلها الملائكة، إذا سمعوها علموا أنه أحدث أمرا، قاله أبو الهذيل. الثالث : أنه جاء للموجودين الذين قال لهم : كُونُوا قِرَدَةً خاسِئِينَ «٤»، ومن جرى مجراهم، وهو قول الأصم. الرابع :
أنه أمر للأحياء بالموت، وللموتى بالحياة، والكل ضعيف، والقوي هو الأول. انتهى كلامه.
هذا ما نقلناه من كلام أهل التفسير في الآية. وظاهر الآية يدل على أن اللّه تعالى إذا أراد إحداث شيء قال له : كن، تبينه الآية الأخرى : إِنَّما قَوْلُنا لِشَيْءٍ إِذا أَرَدْناهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ «٥»، وقوله : وَما أَمْرُنا إِلَّا واحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ «٦». لكن دليل العقل صد عن اعتقاد مخاطبة المعدوم، وصد عن أن يكون اللّه تعالى محلا للحوادث، لأن لفظة كن محدثة، ومن يعقل مدلول اللفظ. وكونه يسبق بعض حروفه بعضا، لم يدخله شك في حدوثه، وإذا كان كذلك، فلا خطاب ولا قول لفظيا، وإنما ذلك عبارة عن سرعة الإيجاد وعدم اعتياضه، فهو من مجاز التمثيل، وكأنه قدر أن المعدوم موجود يقبل الأمر ويمتثله بسرعة، بحيث لا يتأخر عن امتثال ما أمر به. وقرأ الجمهور : فيكون بالرفع، ووجه على أنه على الاستئناف، أي فهو يكون، وعزى إلى سيبويه. وقال غيره : فيكون عطف على يقول، واختاره الطبري وقرّره. قال ابن عطية : وهو خطأ من جهة المعنى، لأنه يقتضي أن القول
(١) سورة النحل : ١٦/ ٤٠.
(٢) سورة النساء : ٤/ ١٦٤.
(٣) سورة فصلت : ٤١/ ١١.
(٤) سورة البقرة : ٢/ ٦٥.
(٥) سورة النحل : ١٦/ ٤٠.
(٦) سورة القمر : ٥٤/ ٥٠.