البحر المحيط، ج ١، ص : ٥٨٧
كان الموصول اليهود والنصارى، فنفى عنهم العلم، لانتفاء ثمرته، وهو الاتباع له والعمل بمقتضاه. وحذف مفعول العلم هنا اقتصارا، لأن المقصود إنما هو نفي نسبة العلم إليهم، لا نفي علمهم بشيء مخصوص، فكأنه قيل : وقال الذين ليسوا ممن له سجية في العلم لفرط غباوته، فهي مقالة صدرت ممن لا يتصف بتمييز ولا إدراك. ومعمول القول، الجملة التحضيضية وهي : لَوْ لا يُكَلِّمُنَا اللَّهُ كما يكلم الملائكة، وكما كلم موسى عليه السلام، قالوا ذلك على طريقة الاستكبار والعتو، أَوْ تَأْتِينا آيَةٌ، أي هلا يكون أحد هذين، إما التكلم، وإما إتيان آية؟ قالوا ذلك جحودا لأن يكون ما أتاهم آية واستهانة بها. ولما حكى عنهم نسبة الولد إلى اللّه تعالى، أعقب ذلك بمقالة أخرى لهم تدل على تعنتهم وجهلهم بما يجب للّه تعالى من التعظيم وعدم الاقتراح على أنبيائه.
كَذلِكَ قالَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِثْلَ قَوْلِهِمْ : تقدم الكلام في إعراب كذلك، وفي تبيين وقوع من قبلهم صلة للذين في قوله : وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ «١» والذين من قبلهم. إن فسر الموصول في الذين لا يعلمون بكفار العرب، أو مشركي مكة، فالذين من قبلهم هم الأمم المكذبة من أسلافهم وغيرهم. وإن فسر باليهود أو النصارى، فالذين من قبلهم أسلافهم، وانتصاب مثل قولهم على البدل من موضع الكاف. ولا تدل المثلية على التماثل في نفس المقول، يل يحتمل أن من قبلهم اقترحوا غير ذلك، وأن المثلية وقعت في اقتراح ما لا يليق سؤاله، وإن لم تكن نفس تلك المقالة، إذ المثلية تصدق بهذا المعنى. تَشابَهَتْ قُلُوبُهُمْ : الضمير عائد على الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ، والَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ. لما ذكر تماثل المقالات، وهي صادرة عن الأهواء والقلوب، ذكر تماثل قلوبهم في العمى والجهل، كقوله تعالى : أَتَواصَوْا بِهِ «٢». قيل : تشابهت قلوبهم في الكفر.
وقيل : في القسوة. وقيل : في التعنت والاقتراح. وقيل : في المحال. وقرأ ابن أبي إسحاق، وأبو حيوة : تشابهت، بتشديد الشين. وقال أبو عمرو الداني : وذلك غير جائز، لأنه فعل ماض، يعني أن اجتماع التاءين المزيدتين لا يكون في الماضي، إنما يكون في المضارع نحو : تتشابه، وحينئذ يجوز فيه الإدغام. أما الماضي فليس أصله تتشابه. وقد مر نظير هذه القراءة في قوله : إِنَّ الْبَقَرَ تَشابَهَ عَلَيْنا «٣»، وخرجنا ذلك على تأويل لا يمكن هنا، فيتطلب هنا تأويل لهذه القراءة.

_
(١) سورة البقرة : ٢/ ٢١.
(٢) سورة الذاريات : ٥١/ ٥٣.
(٣) سورة البقرة : ٢/ ٧٠.


الصفحة التالية
Icon