البحر المحيط، ج ١، ص : ٥٩٤
حتى تكاد تتناسى ما سبق من ذلك الأمر، فتعيده ثانية، لتتذكر ذلك الأمر، وتصير تلك التفصيلات محفوفة بالأمرين المذكورين بهما. ولم تختلف هذه الآية مع تلك السابقة إلا في قوله هناك : وَلا يُقْبَلُ مِنْها شَفاعَةٌ وَلا يُؤْخَذُ مِنْها عَدْلٌ «١»، وقال هنا : وَلا يُقْبَلُ مِنْها عَدْلٌ وَلا تَنْفَعُها شَفاعَةٌ. وقد ذكرنا هناك ما ناسب تقديم الشفاعة هناك على العدل، وتأخيرها هنا عنه، ونسبة القبول هناك للشفاعة، والنفع هنا لها، فيطالع هناك.
وقد تضمنت هذه الآيات الشريفة الإخبار عن مجاوزة الحد في الظلم ممن عطل بيوت اللّه من الذكر وسعى في خرابها، مع أنها من حيث هي منسوبة إلى اللّه، وهي محالّ ذكره وإيواء عباده الصالحين، كان ينبغي أن لا يدخلوها إلا وهم وجلون خائفون، متذكرون لمن بنيت، ولما يذكر فيها. ثم أخبر أن لأولئك الخزي في الدنيا والعذاب العظيم في الآخرة. ثم ذكر أن له تعالى المشرق والمغرب، فيندرج في ذلك المساجد، وأي جهة قصدتموها فاللّه تعالى حاويها ومالكها، فليس مختصا بحيز ولا مكان. وختم هذه الجملة بالوسع المنافي لوسع المقادير، وبالعلم الذي هو دليل الإحاطة.
ثم أخبر عنهم بأفظع مقالة، وهي نسبة الولد إلى اللّه تعالى، ونزه ذاته المقدسة عن ذلك، وأخبر أن جميع من في السموات والأرض ملك له، خاضعون طائعون. ثم ذكر بداعة السموات والأرض، وأنها مخلوقة على غير مثال، فكما أنه لا مثال لهما، فكذلك الفاعل لهما، لا مثال له. ففي ذلك إشارة إلى أنه يمتنع الولد، إذ لو كان له ولد لكان من جنسه، والبارئ لا شيء يشبهه، فلا ولد له، ثم ذكر أنه متى تعلقت إرادته بما يريد أن يحدثه، فلا تأخر له، وفيه إشارة أيضا إلى نفي الولد، لأنه لا يكون إلا عن توالد، ويقتضي إلى تعاقب أزمان، تعالى اللّه عن ذلك، ثم ذكر نوعا من مقالاتهم التي تعنتوا بها أنبياء اللّه، من طلب كلامه ومشافهته إياهم، أو نزول آية. وقد نزلت آيات كثيرة، فلم يصغوا إليها، وأن هذه المقالة اقتفوا بها آثار من تقدمهم، وأن أهواءهم متماثلة في تعنت الأنبياء، وأنه تعالى قد بين الآيات وأوضحها، لكن لمن له فكر فهو يوقن بصحتها ويؤمن بها. ثم ذكر تعالى أنه أرسله بشيرا لمن آمن بالنعيم في الآخرة والظفر في الدنيا، ونذيرا لمن كفر بعكس ذلك، وأن لا تهتم بمن ختم له بالشقاوة، فكان من أهل النار، ولا تغتم بعدم إيمانه، فقد أبلغت وأعذرت. ثم ذكر ما عليه اليهود والنصارى من شدة تعاميهم عن الحق،

_
(١) سورة البقرة : ٢/ ٤٨.


الصفحة التالية
Icon