البحر المحيط، ج ١، ص : ٦٠٤
لأنها هي المصدر بها، فأعلم إبراهيم أن الإمامة لا تنال الظالمين. وذكر بعض أهل العلم أن قوله : وَمِنْ ذُرِّيَّتِي هو استعلام، كأنه قيل : أتجعل من ذريتي إماما : وقد قدمنا أن الظاهر أنه على سبيل الطلب، أي واجعل من ذريتي. وهذا الجواب الذي أجاب اللّه به إبراهيم هو من الجواب الذي يربو على السؤال، لأن إبراهيم طلب من اللّه، وسأل أن يجعل من ذريته إماما، فأجابه إلى أنه لا ينال عهده الظالمين، ودل بمفهومه الصحيح على أنه ينال عهده من ليس بظالم، وكان ذلك دليلا على انقسام ذريته إلى ظالم وغير ظالم، ويدلك على أن العهد هو الإمامة أن ظاهر قوله : لا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ أنه جواب لقول إبراهيم : وَمِنْ ذُرِّيَّتِي على سبيل الجعل، إذ لو كان على سبيل المنع لقال لا، أو لا ينال عهدي ذريتك، ولم ينط المنع بالظالمين. وقرأ أبو رجاء وقتادة والأعمش : الظالمون بالرفع، لأن العهد ينال، كما ينال أي عهدي لا يصل إلى الظالمين، أو لا يصل الظالمون إليه ولا يدركونه. وقد فسر الظلم هنا بالكفر، وهو قول ابن جبير، وبظلم المعاصي غير الكفر، وهو قول عطاء والسدي. واستدل بهذا على أن الظالم إذا عوهد لم يلزم الوفاء بعهده، قال الحسن : لم يجعل اللّه لهم عهدا. قال ابن أبي الفضل : ما ذكره المفسرون من أنه سأل الإمامة لذريته، وأنه أجيب إلى ملتمسه لا يظهر من اللفظ، لأنه قال : ومن ذريتي، وهو محتمل، وجاعل من ذريتي، أو تجعل من ذريتي، أو اجعل من ذريتي. وإذا كان هذا كله محتملا غير منطوق به، فمن أين لهم أنه سأل؟ وأما قولهم : أجيبإلى ملتمسه، فاللفظ لا يدل على ذلك، بل يدل على ضده، لأن ظاهره : أن أولادك ظالمون.
لكن دل الدليل على خلاف ذلك، وهو : وَجَعَلْنا فِي ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ وَالْكِتابَ، وغير ذلك من الآي التي تدل على أن في ذريته النبوة. ولو قال : لا ينال عهدي الظالمين منهم، لدل ذلك على ما يقولون على أن اللفظ لا ينزل عليه نزولا بينا. انتهى ما ذكره ملخصا بعضه. وفيما ذكره ابن أبي الفضل نظر، لأن تلك التقادير التي قدرها ظاهرها السؤال. أما من قدر : واجعل من ذريتي إماما، فهو سؤال وأما من قدر : وتجعل وجاعل، فهو استفهام على حذف الاستفهام، إذ معناه : وأ جاعل أنت يا رب، أو أتجعل يا رب من ذريتي. والاستفهام يؤول معناه إلى السؤال، ولا يجوز أن يكون المقدر من قولهم : وجاعل، أو تجعل من ذريتي إماما خبرا، لأنه خبر من نبي. وإذا كان خبرا من نبي، كان صدقا ضرورة. ولم يتقدم من اللّه إعلام لإبراهيم بذلك، إنما أعلمه أنه يجعله للناس إماما. فمن أين يخبر بذلك؟ ومن يخاطب بذلك؟ إن كان اللّه قد أعلمه ذلك. وإنما ذلك التقدير على سبيل الاستفهام والاستعلام.