البحر المحيط، ج ١، ص : ٦٠٩
قصده، قال قوم : وهذا الأمن مختص بالبيت. وقيل : يشمل البيت والحرم. وقال في ريّ الظمآن معناه : ذا أمن لقاطنيه من أن يجري عليهم ما يجري على سكان البوادي وسائر بلدان العرب. والظاهر أن قوله : وأمنا، معطوف على قوله : مثابة، ويفسر الأمن بما تقدّم ذكره. وذهب بعضهم إلى أن المعنى على الأمر، التقدير : واجعلوه آمنا، أي جعلناه مثابة للناس، فاجعلوه آمنا لا يتعدّى فيه أحد على أحد. فمعناه أن اللّه أمر الناس أن يجعلوا ذلك الموضع آمنا من الغارة والقتل، وكان البيت محرّما بحكم اللّه، وربما يؤيد هذا التأويل بقراءة من قرأ : واتخذوا على الأمر، فعلى هذا يكون العطف فيه من عطف الجمل، عطفت فيه الجملة الأمرية على جملة خبرية، وعلى القول الظاهر يكون من عطف المفردات.
وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقامِ إِبْراهِيمَ مُصَلًّى : قرأ ابن كثير، وأبو عمرو، وعاصم، وحمزة، والكسائي، والجمهور : واتخذوا، بكسر الخاء على الأمر. وقرأ نافع، وابن عامر : بفتحها، جعلوه فعلا ماضيا. فأما قراءة : واتخذوا على الأمر، فاختلف من المواجه به، فقيل :
إبراهيم وذريته، أي وقال اللّه لإبراهيم وذريته : اتخذوا. وقيل : النبي صلّى اللّه عليه وسلّم وأمته، أي : وقلنا اتخذوا. ويؤيده ما
روي عن عمر أنه قال : وافقت ربي في ثلاث، فذكر منها وقلت :
يا رسول اللّه لو اتخذت من مقام إبراهيم مصلى! وروي عن النبي صلّى اللّه عليه وسلّم أنه أخذ بيد عمر فقال :«هذا مقام إبراهيم»، فقال عمر : أفلا نتخذه مصلى؟ فقال :«لم أومر بذلك». فلم تغب الشمس حتى نزلت.
وعلى هذين القولين يكون اتخذوا معمولا لقول محذوف.
وقيل : المواجه به بنو إسرائيل، وهو معطوف على قوله : اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ «١». وقيل : هو معطوف على قوله : وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثابَةً، قالوا : لأن المعنى : ثوبوا إلى البيت، فهو معطوف على المعنى. وهذان القولان بعيدان. وأما قراءة : واتخذوا، بفتح الخاء، فمعطوف على ما قبله، فأما على مجموع، إذ جعلنا فيحتاج إلى إضمار إذ، وأما على نفس جعلنا، فلا يحتاج إلى تقديرها، بل يكون في صلة إذ. والمعنى : واتخذ الناس من مكان إبراهيم الذي وسم به لاهتمامه به، وإسكان ذريته عنده قبلة يصلون إليها، قاله الزمخشري. من مقام : جوّزوا في من أن تكون تبعيضية، وبمعنى في، وزائدة على مذهب الأخفش، والأظهر الأول. وقال القفال : هي مثل اتخذت من فلان صديقا، وأعطاني اللّه من فلان أخا صالحا، دخلت من لبيان المتخذ الموهوب، وتميزه في ذلك المعنى والمقام
(١) سورة البقرة : ٢/ ٤٠.