البحر المحيط، ج ١، ص : ٩٢
والعجب من أبي البقاء كيف تنبه لشيء من هذا فمنع أن يكون يخادعون في موضع الصفة فقال : ولا يجوز أن يكون في موضع جر على الصفة لمؤمنين، لأن ذلك يوجب نفي خداعهم، والمعنى على إثبات الخداع، انتهى كلامه. فأجاز ذلك في الحال ولم يجز ذلك في الصفة، وهما سواء، ولا فرق بين الحال والصفة في ذلك، بل كل منهما قيد يتسلط النفي عليه، واللّه تعالى هو العالم الذي لا يخفى عليه شيء. فمخادعة المنافقين اللّه هو من حيث الصورة لا من حيث المعنى من جهة تظاهرهم بالإيمان وهم مبطنون للكفر، قاله جماعة، أو من حيث عدم عرفانهم باللّه وصفاته فظنوا أنه ممن يصح خداعه. فالتقدير الأول مجاز والثاني حقيقة، أو يكون على حذف مضاف، أي يخادعون رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم والذين آمنوا، فتارة يكون المحذوف مرادا وتارة لا يكون مرادا، بل نزل مخادعتهم رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم بمنزلة مخادعة اللّه، فجاء : يُخادِعُونَ اللَّهَ، وهذا الوجه قاله الحسن والزجاج.
وإذا صح نسبة مخادعتهم إلى اللّه تعالى بالأوجه التي ذكرناها، كما ذكرناها، فلا ضرورة تدعو إلى أن نذهب إلى أن اسم مقحم، لأن المعنى يخادعون الذين آمنوا، كما ذهب إليه الزمخشري، وقال : يكون من باب : أعجبني زيد وكرمه، المعنى هذا أعجبني كرم زيد، وذكر زيد توطئة لذكر كرمه، والنسبة إلى الإعجاب إلى كرمه هي المقصودة، وجعل من ذلك واللّه ورسوله أحق أن يرضوه، إن الذين يؤذون اللّه ورسوله وما ذكره في هذه المثل غير مسلّم له. وللآيتين الشريفتين محامل تأتي في مكانها، إن شاء اللّه تعالى. وأما أعجبني زيد وكرمه، فإن الإعجاب أسند إلى زيد بجملته، ثم عطف عليه بعض صفاته تمييزا لصفة الكرم من سائر الصفات التي انطوى عليها لشرف هذه الصفة، فصار من المعنى نظيرا لقوله تعالى : وَمَلائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكالَ «١»، فلا يدعي كما ادعى الزمخشري أن الاسم مقحم، وأنه ذكر توطئة لذكر الكرم. وخادع الذي مضارعه يخادع على وزن فاعل، وفاعل يأتي لخمسة معان : لاقتسام الفاعلية، والمفعولية في اللفظ، والاشتراك فيهما من حيث المعنى، ولموافقة أفعل المتعدي، وموافقة المجرد للإغناء عن أفعل وعن المجرد. ومثل ذلك : ضارب زيدا عمر، وباعدته، وواريت الشيء، وقاسيت.
وخادع هنا إما لموافقة الفعل المجرد فيكون بمعنى خدع، وكأنه قال : يخدعون اللّه، ويبينه قراءة ابن مسعود وأبي حياة، وقد تقدمت. ويحتمل أن يكون خادع من باب المفاعلة، فمخادعتهم تقدم تفسيرها، ومخادعة اللّه لهم حيث أجرى عليهم أحكام المسلمين واكتفى

_
(١) سورة البقرة : ٢/ ٩٨.


الصفحة التالية
Icon