البحر المحيط، ج ١٠، ص : ١٠٥
قوله عز وجل : يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ يَسْعى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمانِهِمْ بُشْراكُمُ الْيَوْمَ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ، يَوْمَ يَقُولُ الْمُنافِقُونَ وَالْمُنافِقاتُ لِلَّذِينَ آمَنُوا انْظُرُونا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ قِيلَ ارْجِعُوا وَراءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُوراً فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بابٌ باطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذابُ، يُنادُونَهُمْ أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ قالُوا بَلى وَلكِنَّكُمْ فَتَنْتُمْ أَنْفُسَكُمْ وَتَرَبَّصْتُمْ وَارْتَبْتُمْ وَغَرَّتْكُمُ الْأَمانِيُّ حَتَّى جاءَ أَمْرُ اللَّهِ وَغَرَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ، فَالْيَوْمَ لا يُؤْخَذُ مِنْكُمْ فِدْيَةٌ وَلا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مَأْواكُمُ النَّارُ هِيَ مَوْلاكُمْ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ.
العامل في يوم ما عمل في لهم التقدير : ومستقر له أجر كريم يوم ترى، أو اذكر يوم ترى إعظاما لذلك اليوم. والرؤية هنا رؤية عين، والنور حقيقة، وهو قول الجمهور، وروي في ذلك عن ابن عباس وغيره آثار، وأن كل مظهر من الإيمان له نور، فيطفىء نور المنافق، ويبقى نور المؤمن، وهم متفاوتون في النور. منهم من يضيء، كما بين مكة وصنعاء، ومن نوره كالنخلة السحوق، ومن يضيء له ما قرب قدميه. ومنهم من يهم بالانطفاء مرة ويبين مرة، وذلك على قدر الأعمال. وقال الضحاك : النور استعارة عن الهدى والرضوان الذي هم فيه. والظاهر أن النور يتقدم لهم بين أيديهم، ويكون أيضا بأيمانهم، فيظهر أنهما نوران : نور ساع بين أيديهم، ونور بأيمانهم فذلك يضيء الجهة التي يؤمونها، وهذا يضيء ما حواليهم من الجهات. وقال الجمهور : النور أصله بأيمانهم، والذي بين أيديهم هو الضوء المنبسط من ذلك النور. وقيل : الباء بمعنى عن، أي عن أيمانهم، والمعنى : في جميع جهاتهم. وعبر عن ذلك بالأيمان تشريفا لها. وقال الزمخشري : وإنما قال بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمانِهِمْ، لأن السعداء يؤتون صحائف أعمالهم من هاتين الجهتين، كما أن الأشقياء يؤتونها من شمائلهم ووراء ظهورهم. وقرأ الجمهور : وَبِأَيْمانِهِمْ، جمع يمين وسهل بن شعيب السهمي، وأبو حيوة : بكسر الهمزة، وعطف هذا المصدر على الظرف لأن الظرف متعلق بمحذوف، أي كائنا بين أيديهم، وكائنا بسبب أيمانهم.
بُشْراكُمُ الْيَوْمَ جَنَّاتٌ : جملة معمولة لقول محذوف، أي تقول لهم الملائكة :
الذين يتلقونهم جنات، أي دخول جنات. قال ابن عطية : خالِدِينَ فِيها، إلى آخر الآية، مخاطبة لمحمد صلى اللّه عليه وسلم. انتهى. ولا مخاطبة هنا، بل هذا من باب الالتفات من ضمير الخطاب في بُشْراكُمُ إلى ضمير الغيبة في خالِدِينَ. ولو جرى على الخطاب، لكان التركيب خالدا أنتم فيها، والالتفات من فنون البيان يَوْمَ يَقُولُ بدل من يَوْمَ تَرَى.
وقيل : معمول لا ذكر. قال ابن عطية : ويظهر لي أن العامل فيه ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ، ومجيء معنى الفوز أفخم، كأنه يقول : إن المؤمنين يفوزون بالرحمة يوم يعتري المنافقين كذا وكذا، لأن ظهور المرء يوم خمول عدوه ومضاده أبدع وأفخم. انتهى. فظاهر كلامه


الصفحة التالية
Icon