البحر المحيط، ج ١٠، ص : ١١٣
فأعربت هو مبتدأ، لم يجز حذفه، لأن ما بعده من قولك الفاضل صالح أن يكون خبرا لأن، فلا يبقى دليل على حذف هو الرابط. ونظيره : الَّذِينَ هُمْ يُراؤُنَ «١»، لا يجوز حذف هم، لأن ما بعده يصلح أن يكون صلة، فلا يبقى دليل على المحذوف. وما ذهب إليه أبو علي ليس بشيء، لأنه بنى ذلك على توافق القراءتين وتركيب إحداهما على الأخرى، وليس كذلك. ألا ترى أنه يكون قراءتان في لفظ واحد، ولكل منهما توجيه يخالف الآخر، كقراءة من قرأ : وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِما وَضَعَتْ «٢» بضم التاء، والقراءة الأخرى : بِما وَضَعَتْ بتاء التأنيث؟ فضم التاء يقتضي أن الجملة من كلام أم مريم، وتاء التأنيث تقتضي أنها من كلام اللّه تعالى، وهذا كثير في القراءات المتواترة. فكذلك هذا يجوز أن يكون هو مبتدأ في قراءة من أثبته، وإن كان لم يرد في القراءة الأخرى، ولكل من التركيبين في الإعراب حكم يخصه.
لَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلَنا بِالْبَيِّناتِ : الظاهر أن الرسل هنا هم من بني آدم، والبينات :
الحجج والمعجزات. وَأَنْزَلْنا مَعَهُمُ الْكِتابَ : الكتاب اسم جنس، ومعهم حال مقدرة، أي وأنزلنا الكتاب صائرا معهم، أي مقدرا صحبته لهم، لأن الرسل منزلين هم والكتاب.
ولما أشكل لفظ معهم على الزمخشري، فسر الرسل بغير ما فسرناه، فقال : لَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلَنا، يعنى : الملائكة، إلى الأنبياء بالحجج والمعجزات، وَأَنْزَلْنا مَعَهُمُ الْكِتابَ :
أي الوحي، وَالْمِيزانَ. وروي أن جبريل عليه السلام نزل بالميزان، فدفعه إلى نوح وقال : مر قومك يزنوا به.
وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ،
قيل : نزل آدم من الجنة ومعه خمسة أشياء من حديد السندان والكلبتان والميقعة والمطرقة والإبرة.
وروي : ومعه المسن والمسحاة.
وعن النبي صلّى اللّه عليه وسلم أن اللّه تعالى أنزل أربع بركات من السماء إلى الأرض، أنزل الحديد والنار والماء والملح.
انتهى. وأكثر المتأولين على أن المراد بالميزان : العدل، فقال ابن زيد وغيره : أراد بالموازين : المعرفة بين الناس، وهذا جزء من العدل. لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ : الظاهر أنه علة لإنزال الميزان فقط، ويجوز أن يكون علة لإنزال الكتاب والميزان معا، لأن القسط هو العدل في جميع الأشياء من سائر التكاليف، فإنه لا جور في شيء منها، ولذلك جاء : شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُولُوا الْعِلْمِ قائِماً بِالْقِسْطِ «٣».

(١) سورة الماعون : ١٠٧/ ٦.
(٢) سورة آل عمران : ٣/ ٣٦.
(٣) سورة آل عمران : ٣/ ١٨.


الصفحة التالية
Icon