البحر المحيط، ج ١٠، ص : ١١٧
مَرَّتَيْنِ
«١»، إذ أنتم مثلهم في الإيمانين، لا تفرقوا بين أحد من رسله. وروي أن مؤمني أهل الكتاب افتخروا على غيرهم من المؤمنين بأنهم يؤتون أجرهم مرتين، وادعوا الفضل عليهم، فنزلت. وقيل : النداء متوجه لمن آمن من أهل الكتاب، فالمعنى : يا أيها الذين آمنوا بموسى وعيسى، آمنوا بمحمد صلّى اللّه عليه وسلّم، يؤتكم اللّه كفلين، أي نصيبين من رحمته، وذلك لإيمانكم بمحمد صلّى اللّه عليه وسلّم، وإيمانكم بمن قبله من الرسل. وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُوراً تَمْشُونَ بِهِ :
وهو النور المذكور في قوله : يَسْعى نُورُهُمْ، ويغفر لكم ما أسلفتم من الكفر والمعاصي. ويؤيد هذا المعنى ما ثبت
في الصحيح :«ثلاثة يؤتهم اللّه أجرهم مرتين : رجل من أهل الكتاب آمن بنبيه وآمن بي»
، الحديث.
ليعلم أهل الكتاب الذين لم يسلموا أنهم لا ينالون شيئا مما ذكر من فضله من الكفلين والنور والمغفرة، لأنهم لم يؤمنوا برسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم، فلم ينفعهم إيمانهم بمن قبله، ولم يكسبهم فضلا قط. وإذا كان النداء لمؤمني هذه الأمة والأمر لهم، فروي أنه لما نزل هذا الوعد لهم حسدهم أهل الكتاب، وكانت اليهود تعظم دينها وأنفسها، وتزعم أنهم أحباء اللّه وأهل رضوانه، فنزلت هذه الآية معلمة أن اللّه تعالى فعل ذلك وأعلم به. ليعلم أهل الكتاب أنهم ليسوا كما يزعمون. وقرأ الجمهور : لِئَلَّا يَعْلَمَ، ولا زائدة كهي في قوله : ما مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ «٢»، وفي قوله : أَنَّهُمْ لا يَرْجِعُونَ»
في بعض التأويلات. وقرأ خطاب بن عبد اللّه : لأن لا يعلم وعبد اللّه وابن عباس وعكرمة والجحدري وعبد اللّه بن سلمة : على اختلاف ليعلم والجحدري : لينيعلم، أصله لأن يعلم، قلب الهمزة ياء لكسرة ما قبلها وأدغم النون في الياء بغير غنة، كقراءة خلف أن يضرب بغير غنة. وروى ابن مجاهد عن الحسن : ليلا مثل ليلى اسم المرأة، يعلم برفع الميم أصله لأن لا بفتح لام الجر وهي لغة، فحذفت الهمزة، اعتباطا، وأدغمت النون في اللام، فاجتمعت الأمثال وثقل النطق بها، فأبدلوا من الساكنة ياء فصار ليلا، ورفع الميم، لأن إن هي المخففة من الثقيلة لا الناصبة للمضارع، إذ الأصل لأنه لا يعلم. وقطرب عن الحسن أيضا : لئلا بكسر اللام وتوجيهه كالذي قبله، إلا أنه كسر اللام على اللغة الشهيرة في لام الجر. وعن ابن عباس : كي يعلم، وعنه : لكيلا يعلم، وعن عبد اللّه وابن جبير وعكرمة : لكي يعلم. وقرأ الجمهور : أن لا يقدرون بالنون، فإن هي المخففة من الثقيلة وعبد اللّه بحذفها، فإن الناصبة للمضارع، واللّه تعالى أعلم.

(١) سورة القصص : ٢٨/ ٥٤.
(٢) سورة الأعراف : ٧/ ١٢.
(٣) سورة الأنبياء : ٢١/ ٩٥.


الصفحة التالية
Icon