البحر المحيط، ج ١٠، ص : ٢٣٦
وما ذهب إليه الزمخشري من أن بِنِعْمَةِ رَبِّكَ متعلق بِمَجْنُونٍ، وأنه في موضع الحال، يحتاج إلى تأمل، وذلك أنه إذا تسلط النفي على محكوم به، وذلك له معمول، ففي ذلك طريقان : أحدهما : أن النفي يتسلط على ذلك المعمول فقط، والآخر : أن يتسلط النفي على المحكوم به فينتفي معموله لانتفائه بيان ذلك، تقول : ما زيد قائم مسرعا، فالمتبادر إلى الذهن أنه منتف إسراعه دون قيامه، فيكون قد قام غير مسرع. والوجه الآخر أنه انتفى قيامه فانتفى إسراعه، أي لا قيام فلا إسراع، وهذا الذي قررناه لا يتأتى معه قول الزمخشري بوجه، بل يؤدي إلى ما لا يجوز أن ينطق به في حق المعصوم صلّى اللّه عليه وسلّم. وقيل معناه :
ما أنت بمجنون والنعمة بربك لقولهم : سبحانك اللهم وبحمدك، أي والحمد للّه، ومنه قول لبيد :
وأفردت في الدنيا بفقد عشيرتي وفارقني جار بأربد نافع
أي : وهو أربد. انتهى. وهذا تفسير معنى لا تفسير إعراب. وفي المنتخب ما ملخصه المعنى : انتفى عنك الجنون بنعمة ربك، أي حصول الصفة المحمودة، وزال عنك الصفة المذمومة بواسطة إنعام ربك. ثم قرر بهذه الدعوى ما هو كالدليل القاطع على صحتها، لأن نعمه كانت ظاهرة في حقه من كمال الفصاحة والعقل والسيرة المرضية والبراءة من كل عيب والاتصاف بكل مكرمة، فحصول ذلك وظهوره جار مجرى اليقين في كونهم كاذبين في قولهم : إنه مجنون. وَإِنَّ لَكَ لَأَجْراً في احتمال طعنهم وفي دعاء الخلق إلى اللّه، فلا يمنعك ما قالوا عن الدعاء إلى اللّه. وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ : هذا كالتفسير لما تقدم من قوله : بِنِعْمَةِ رَبِّكَ، وتعريف لمن رماه بالجنون أنه كذب وأخطأ، وأن من كان بتلك الأخلاق المرضية لا يضاف الجنون إليه، ولفظه يدل على الاستعلاء والاستيلاء. انتهى.
وَإِنَّ لَكَ لَأَجْراً : أي على ما تحملت من أثقال النبوة ومن أذاهم مما ينسبون إليك مما أنت لا تلتبس به من المعائب، غَيْرَ مَمْنُونٍ : أي غير مقطوع، مننت الحبل : قطعته، قال الشاعر :
عبسا كواسب لا يمن طعامها أي لا يقطع. وقال مجاهد : غير محسوب. وقال الحسن : غير مكدر بالمن. وقال الضحاك : بغير عمل. وقيل : غير مقدر، وهو معنى قول مجاهد. وقال الزمخشري : أو غير ممنون عليك، لأن ثواب تستوجبه على عملك وليس بتفضل ابتداء، وإنما تمن الفواصل لا الأجور على الأعمال. انتهى، وفيه دسيسة الاعتزال. وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ، قال