البحر المحيط، ج ١٠، ص : ٢٤٥
فَذَرْنِي وَمَنْ يُكَذِّبُ بِهذَا الْحَدِيثِ سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ، وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ، أَمْ تَسْئَلُهُمْ أَجْراً فَهُمْ مِنْ مَغْرَمٍ مُثْقَلُونَ، أَمْ عِنْدَهُمُ الْغَيْبُ فَهُمْ يَكْتُبُونَ، فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلا تَكُنْ كَصاحِبِ الْحُوتِ إِذْ نادى وَهُوَ مَكْظُومٌ، لَوْ لا أَنْ تَدارَكَهُ نِعْمَةٌ مِنْ رَبِّهِ لَنُبِذَ بِالْعَراءِ وَهُوَ مَذْمُومٌ، فَاجْتَباهُ رَبُّهُ فَجَعَلَهُ مِنَ الصَّالِحِينَ، وَإِنْ يَكادُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصارِهِمْ لَمَّا سَمِعُوا الذِّكْرَ وَيَقُولُونَ إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ، وَما هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ
لما ذكر تعالى أنه بلا كفار قريش وشبه بلاءهم ببلاء أصحاب الجنة، أخبر بحال أضدادهم وهم المتقون، فقال : إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ : أي الكفر، جَنَّاتِ النَّعِيمِ : أضافها إلى النعيم، لأن النعيم لا يفارقها، إذ ليس فيها إلا هو، فلا يشوبه كدر كما يشوب جنات الدنيا.
وروي أنه لما نزلت هذه الآية قالت قريش : إن كان ثم جنة فلنا فيها أكثر الحظ، فنزلت : أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ. وقال مقاتل : قالوا فضلنا اللّه عليكم في الدنيا، فهو يفضلنا عليكم في الآخرة، وإلا فالمشاركة، فأجاب تعالى : أَفَنَجْعَلُ : أي لا يتساوى المطيع والعاصي، هو استفهام فيه توقيف على خطأ ما قالوا وتوبيخ. ثم التفت إليهم فقال : ما لَكُمْ، أي : أي شيء لكم فيما تزعمون؟ وهو استفهام إنكار عليهم. ثم قال : كَيْفَ تَحْكُمُونَ، وهو استفهام ثالث على سبيل الإنكار عليهم، استفهم عن هيئة حكمهم. ففي قوله : ما لَكُمْ استفهام عن كينونة مبهمة، وفي كَيْفَ تَحْكُمُونَ استفهام عن هيئة حكمهم.
ثم أضرب عن هذا إضراب انتقال لشيء آخر لا إبطال لما قبله فقال : أَمْ لَكُمْ، أي : بل ألكم؟ كِتابٌ، أي من عند اللّه، تَدْرُسُونَ أن ما تختارونه يكون لكم. وقرأ الجمهور : إِنَّ لَكُمْ بكسر الهمزة، فقيل هو استئناف قول على معنى : إن لكم كتاب فلكم فيه متخير. وقيل : أن معمولة لتدرسون، أي تدرسون في الكتاب أن لكم، لَما تَخَيَّرُونَ : أي تختارون من النعيم، وكسرت الهمزة من أن لدخول اللام في الخبر، وهي بمعنى أن بفتح الهمزة، قاله الزمخشري وبدأ به وقال : ويجوز أن تكون حكاية للمدروس كما هو، كقوله : وَتَرَكْنا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ سَلامٌ عَلى نُوحٍ «١». انتهى. وقرأ طلحة والضحاك : أن لكم بفتح الهمزة، واللام في لما زائدة كهي في قراءة من قرأ الا أنهم ليأكلون الطعام بفتح همزة أنهم. وقرأ الأعرج : أإن لكم على الاستفهام.