البحر المحيط، ج ١٠، ص : ٤٩٦
هذه السورة مكية. ولما ذكر فيما قبلها وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى «١»، وكان سيد الأتقين رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم، ذكر تعالى هنا نعمه عليه. وقرأ الجمهور ما وَدَّعَكَ بتشديد الدال وعروة بن الزبير وابنه هشام وأبو حيوة وأبو بحرية وابن أبي عبلة : بخفها، أي ما تركك.
واستغنت العرب في فصيح كلامها بترك عن ودع ووذر، وعن اسم فاعلهما بتارك، وعن اسم مفعولهما بمتروك، وعن مصدرهما بالترك، وقد سمع ودع ووذر. قال أبو الأسود :
ليت شعري عن خليلي ما الذي غاله في الحب حتى ودعه
وقال آخر :
وثم ودعنا آل عمرو وعامر فرائس أطراف المثقفة السمر
والتوديع مبالغة في الودع، لأن من ودعك مفارقا فقد بالغ في تركك. وَما قَلى :
ما أبغضك، واللغة الشهيرة في مضارع قلى يقلى، وطيىء تعلى بفتح العين وحذف المفعول اختصارا في قَلى، وفي فَآوى وفي فَهَدى، وفي فَأَغْنى، إذ يعلم أنه ضمير المخاطب، وهو الرسول صلّى اللّه عليه وسلم. قال ابن عباس وغيره : أبطأ الوحي مرة على الرسول صلّى اللّه عليه وسلم وهو بمكة، حتى شق ذلك عليه، فقالت أم جميل، امرأة أبي لهب : يا محمد ما أرى شيطانك إلا تركك؟ فنزلت. وقال زيد بن أسلم : إنما احتبس عنه جبريل عليه السلام لجر وكلب كان في بيته.
وَلَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الْأُولى : يريد الدارين، قاله ابن إسحاق وغيره. ويحتمل أن يريد حالتيه قبل نزول السورة وبعدها، وعده تعالى بالنصر والظفر، قاله ابن عطية اهتمالا. وقال الزمخشري : فإن قلت : كيف اتصل قوله : وَلَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الْأُولى بما قبله؟ قلت : لما كان في ضمن نفي التوديع والقلى أن اللّه مواصلك بالوحي إليك، وأنك حبيب اللّه، ولا ترى كرامة أعظم من ذلك، ولا نعمة أجل منه، أخبره أن حاله في الآخرة أعظم من ذلك وأجل، وهو السبق والتقدم على جميع أنبياء اللّه ورسله، وشهادة أمته على سائر الأمم، ورفع درجات المؤمنين وإعلاء مراتبهم بشفاعته. وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضى، قال الجمهور : ذلك في الآخرة. وقال ابن عباس : رضاه أن لا يدخل أحد من أهل بيته النار. وقال أيضا : رضاه أنه وعده بألف قصر في الجنة بما تحتاج إليه من النعم والخدم. وقيل : في الدنيا بفتح مكة وغيره، والأولى أن هذا موعد شامل لما أعطاه في