البحر المحيط، ج ١٠، ص : ٥٠٧
ربك، ولم يأت بلفظ الجلالة لما في لفظ الرب من معنى الذي رباك ونظر في مصلحتك.
وجاء الخطاب ليدل على الاختصاص والتأنيس، أي ليس لك رب غيره. ثم جاء بصفة الخالق، وهو المنشئ للعالم لما كانت العرب تسمي الأصنام أربا. أتى بالصفة التي لا يمكن شركة الأصنام فيها، ولم يذكر متعلق الخلق أولا، فالمعنى أنه قصد إلى استبداده بالخلق، فاقتصر أو حذف، إذ معناه خلق كل شيء.
ثم ذكر خلق الإنسان، وخصه من بين المخلوقات لكونه هو المنزل إليه، وهو أشرف. قال الزمخشري : أشرف ما على الأرض، وفيه دسيسة أن الملك أشرف. وقال :
ويجوز أن يراد الذي خلق الإنسان، كما قال : الرَّحْمنُ عَلَّمَ الْقُرْآنَ خَلَقَ الْإِنْسانَ «١» فقيل : الذي خلق مبهما، ثم فسره بقوله : خلق تفخيما لخلق الإنسان ودلالة على عجيب فطرته، انتهى. والإنسان هنا اسم جنس، والعلق جمع علقة، فلذلك جاء من علق، وإنما ذكر من خلق من علق لأنهم مقرون به، ولم يذكر أصلهم آدم، لأنه ليس متقررا عند الكفار فيسبق الفرع، وترك أصل الخلقة تقريبا لأفهامهم.
ثم جاء الأمر ثانيا تأنيسا له، كأنه قيل : امض لما أمرت به، وربك ليس مثل هذه الأرباب، بل هو الأكرم الذي لا يلحقه نقص. والأكرم صفة تدل على المبالغة في الكرم، إذ كرمه يزيد على كل كرم ينعم بالنعم التي لا تحصى، ويحلم على الجاني، ويقبل التوبة، ويتجاوز عن السيئة. وليس وراء التكرم بإفادة الفوائد العلمية تكرم حيث قال :
الْأَكْرَمُ، الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ، عَلَّمَ الْإِنْسانَ ما لَمْ يَعْلَمْ، فدل على كمال كرمه بأنه علم عباده ما لم يعلموا، ونقلهم من ظلمة الجهل إلى نور العلم، ونبه على أفضل علم الكتابة لما فيه من المنافع العظيمة التي لا يحيط بها إلا هو. وما دونت العلوم، ولا قيدت الحكم، ولا ضبطت أخبار الأولين ولا مقالاتهم ولا كتب اللّه المنزلة إلا بالكتابة، ولو لا هي لما استقامت أمور الدين والدنيا، ولو لم يكن على دقيق حكمة اللّه تعالى ولطيف تدبيره دليل إلا أمر الخط والقلم لكفى به. ولبعضهم في الأقلام :
ورواقم رقش كمثل أراقم قطف الخطا نيالة أقصى المدى
سود القوائم ما يجد مسيرها إلا إذا لعبت بها بيض المدى
انتهى. من كلام الزمخشري. ومن غريب ما رأينا تسمية النصارى بهذه الصفة التي هي

(١) سورة الرحمن : ٥٥/ ١ - ٣.


الصفحة التالية
Icon