البحر المحيط، ج ٢، ص : ١٠٩
ولما كان لفظ الناس يعم المؤمن والكافر، ميز اللّه المؤمنين بهذا النداء، تشريفا لهم وتنبيها على خصوصيتهم. وظاهر كلوا : الأمر بالأكل المعهود. وقيل : المراد الانتفاع به، ونبه بالأكل على وجوه الانتفاع، إذ كان الأكل أعظمها، إذ به تقوم البنية. قيل : وهذا أقرب إلى المعنى، لأنه تعالى ما خص الحل والحرمة بالمأكولات، بل بسائر ما ينتفع به من أكل وشرب ولبس وغير ذلك والطيبات. قيل : الحلال، وقيل : المستلذ المستطاب، لكن بشرط أن يكون حلالا. وقد تقدم هذا الشرط في قوله : كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلالًا طَيِّباً، فصار هذا الأمر الثاني مثل الأول في أن متعلقه المستلذ الحلال. ما رزقناكم : فيه إسناد الرزق إلى ضمير المتكلم بنون العظمة، لما في الرزق من الامتنان والإحسان. وإذا فسر الطيبات بالحلال، كان في ذلك دلالة على أن ما رزقه اللّه ينقسم إلى حلال وإلى حرام، بخلاف ما ذهبت إليه المعتزلة، من أن الرزق لا يكون إلا حلالا. وقد تقدم الكلام على الرزق في أول السورة، فأغنى عن إعادته هنا. ومن منع أن يكون الرزق حراما قال : المراد كلوا من مستلذ ما رزقناكم، وهو الحلال، أمر بذلك وأباحه تعالى دفعا لمن يتوهم أن التنوع في المطاعم والتفنن في اطابتها ممنوع منه، فكان تخصيص المستلذ بالذكر لهذا المعنى.
وَاشْكُرُوا لِلَّهِ : هذا من الالتفات، إذ خرج من ضمير المتكلم إلى اسم الغائب، وحكمة ذلك ظاهرة، لأن هذا الاسم الظاهر متضمن لجميع الأوصاف التي منها وصف الأنعام والرزق والشكر، ليس على هذا الإذن الخاص، بل يشكر على سائر الإنعامات والامتنانات التي منها هذا الامتنان الخاص. وجاء هنا تعدية الشكر باللام، وقد تقدم الكلام على ذلك.
وتضمنت هذه الآية أمرين : الأول : كُلُوا، قالوا : وهو عند دفع الضرر واجب، ومع الضيف مندوب إليه، وإذا خلا عن العوارض كان مباحا، وكذا هو في الآية. والثاني :
وَاشْكُرُوا لِلَّهِ، وهو أمر وليس بإباحة. قيل : ولا يمكن القول بوجوب الشكر، لأنه إما أن يكون بالقلب، أو باللسان، أو بالجوارح. فبالقلب هو العلم بصدور النعمة من المنعم، أو العزم على تعظيمه باللسان، أو الجوارح. أما ذلك العلم فهو من لوازم كمال العقل، فإن العاقل لا ينسى ذلك. فإذا كان ذلك العلم ضروريا، فكيف يمكن إيجابه؟ وأما العزم على تعظيمه باللسان والجوارح، فذلك العزم القلبي تابع للإقرار اللساني والعمل بالجوارح.
فإذا بينا أنهما لا يجبان، كان العزم بأن لا يجب أولى. وأما الشكر باللسان، فإما أن يفسر بالاعتراف له بكونه منعما، أو بالثناء عليه. فهذا غير واجب بالاتفاق، بل هو من باب


الصفحة التالية
Icon