البحر المحيط، ج ٢، ص : ١١٢
من قوله صلى اللّه عليه وسلم :«حلت لنا ميتتان».
وقال ابن عطية : الحوت والجراد لم يدخل قط في هذا العموم. انتهى. فإن عنى لم يدخل في دلالة اللفظ، فلا نسلم له ذلك. وإن عنى لم يدخل في الإرادة، فهو كما قال، لأن المخصص يدل على أنه لم يرد به الدخول في اللفظ العام الذي خصص به.
قال الزمخشري : فإن قلت في الميتات ما يحل وهو السمك والجراد. قلت : قصد ما يتفاهمه الناس ويتعارفونه في العادة. ألا ترى أن القائل إذا قال : أكل فلان ميتة، لم يسبق الفهم إلى السمك والجراد؟ كما لو قال : أكل دما، لم يسبق إلى الكبد والطحال. ولاعتبار العادة والتعارف قالوا : من حلف لا يأكل لحما، فأكل سمكا، لم يحنث، وإن أكل لحما في الحقيقة. وقال اللّه تعالى : لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْماً طَرِيًّا «١»، وشبهوه بمن حلف لا يركب دابة، فركب كافرا، لم يحنث وإن سماه اللّه دابة في قوله : إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الَّذِينَ كَفَرُوا «٢». انتهى كلامه.
وملخص ما يقوله : أن السمك والجراد لم يندرج في عموم الميتة من حيث الدلالة، وليس كما قال. وكيف يكون ذلك، وقد روي عنه صلى اللّه عليه وسلم أنه قال :«أحلت لنا ميتتان»؟
فلو لم يندرج في الدلالة، لما احتيج إلى تقرير شرعي في حله، إذ كان يبقى مدلولا على حله بقوله : كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ، كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ. وليس من شرط العموم ما يتفاهمه الناس ويتعارفونه فى العادة، كما قال الزمخشري، بل لو لم يكن للمخاطب شعور البتة، ولا علم ببعض أفراد العام، وعلق الحكم على العام، لاندرج فيه ذلك الفرد الذي لا شعور للمخاطب به. مثال ذلك ما جاء
في الحديث :«نهى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم عن أكل كل ذي ناب من السباع».
فهذا علق الحكم فيه بكل ذي ناب. والمخاطب، الذين هم العرب، لا علم لهم ببعض أفراد ذي الناب، وذلك الفرد مندرج في العموم يقضي عليه بالنهي، كما في بلادنا، بلاد الأندلس، حيوان مفترس يسمى عندهم بالدب وبالسمع، وهو ذو أنياب يفترس الرجل ويأكله، ولا يشبه الأسد، ولا الذئب، ولا النمر، ولا شيئا مما يعرفه العرب، ولا نعلمه خلق بغير بلاد الأندلس. فهذا لا يذهب أحد إلى أنه ليس مندرجا في عموم النهي عن أكل كل ذي ناب، بل شمله النهي، كما شمل غيره مما تعاهده العرب وعرفوه، لأن الحكم نيط بالعموم وعلق به، فهو معلق بكل فرد من أفراده، حتى بما كان لم
(١) سورة النحل : ١٦/ ١٤. [.....]
(٢) سورة الأنفال : ٨/ ٥٥.