البحر المحيط، ج ٢، ص : ١٤
بالفواصل والمقاطع من قوله : عليكم، فكان قوله : شهيدا، تمام الجملة، ومقطعها دون عليكم. وما ذهب إليه الزمخشري من أن تقديم على أوّلا، لأن الغرض فيه إثبات شهادتهم على الأمم وتأخير على : لاختصاصهم بكون الرسول شهيدا عليهم، فهو مبني على مذهبه : أن تقديم المفعول والمجرور يدل على الاختصاص. وقد ذكرنا بطلان ذلك فيما تقدم، وأن ذلك دعوى لا يقوم عليها برهان. وتقدّم ذكر تعليل جعلهم وسطا بكونهم شهداء، وتأخر التعليل بشهادة الرسول، لأنه كذلك يقع. ألا ترى أنهم يشهدون على الأمم، ثم يشهد الرسول عليهم، على ما نص في الحديث من أنهم إذا ناكرت الأمم رسلهم وشهدت أمّة محمد عليهم بالتبليغ، يؤتى بمحمد صلى اللّه عليه وسلم فيسأل عن حال أمّته، فيزكيهم ويشهد بصدقهم؟ وإن فسرت الشهادتان بغير ذلك مما يمكن أن تكون شهادة الرسول متقدّمة في الزمان، فيكون التأخير لذكر شهادة الرسول من باب الترقي، لأن شهادة الرسول عليهم أشرف من شهادتهم على الناس. وأتى بلفظ الرسول، لما في الدلالة بلفظ الرسول على اتصافه بالرسالة من عند اللّه إلى أمّته. وأتى بجمع فعلاء، الذي هو جمع فعيل وبشهيد، لأن ذلك هو للمبالغة دون قوله : شاهدين، أو إشهادا، أو شاهدا. وقد استدل بقوله : وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً على أن التزكية تقتضي قبول الشهادة، فإن أكثر المفسرين قالوا : معنى شهيدا : مزكيا لكم، قالوا : وعليكم تكون بمعنى : لكم.
وَما جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْها إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلى عَقِبَيْهِ : جعل هنا : بمعنى صير، فيتعدى لمفعولين : أحدهما القبلة، والآخر الَّتِي كُنْتَ عَلَيْها. والمعنى : وما صيرنا قبلتك الآن الجهة التي كنت أوّلا عليها إلا لنعلم، أي ما صيرنا متوجهك الآن في الصلاة المتوجه أوّلا، لأنه كان يصلي أولا إلى الكعبة، ثم صلى إلى بيت المقدس، ثم صار يصلي إلى الكعبة. وتكون القبلة : هو المفعول الثاني، والتي كنت عليها : هو المفعول الأول، إذ التصيير هو الانتقال من حال إلى حال. فالمتلبس بالحالة الأولى هو المفعول الأول، والمتلبس بالحالة الثانية هو المفعول الثاني. ألا ترى أنك تقول : جعلت الطين خزفا، وجعلت الجاهل عالما؟ والمعنى هنا على هذا التقدير :
وما جعلنا الكعبة التي كانت قبلة لك أولا، ثم صرفت عنها إلى بيت المقدس، قبلتك الآن إلا لنعلم. ووهم الزمخشري في ذلك، فزعم أن التي كنت عليها : هو المفعول الثاني لجعل، قال : التي كنت عليها ليس بصفة للقبلة، إنما هي ثاني مفعولي جعل. تريد : وما جعلنا القبلة الجهة التي كنت عليها، وهي الكعبة، لأن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم كان يصلي بمكة إلى