البحر المحيط، ج ٢، ص : ١٤١
في الصبر من الشديد إلى أشد، فذكر أولا الصبر على الفقر، ثم الصبر على المرض وهو أشد من الفقر، ثم الصبر على القتال وهو أشد من الفقر والمرض.
قال الراغب : استوعب أنواع الصبر لأنه إما أن يكون فيما يحتاج إليه من القوت فلا يناله، وهو : البأساء، أو فيما ينال جسمه من ألم وسقم، وهو : الضراء في مدافعة مؤذية، وهو : البأساء. انتهى كلامه.
وعدّى الصابرين إلى البأساء والضراء بفي لأنه لا يمدح الإنسان على ذلك إلّا إذا صار له الفقر والمرض كالظرف، وأما الفقر وقتا ما، أو المرض وقتا ما، فلا يكاد يمدح الإنسان بالصبر على ذلك لأن ذلك قلّ أن يخلو منه أحد. وأما القتال فعدّى الصابرين إلى ظرف زمانه لأنها حالة لا تكاد تدوم، وفيها الزمان الطويل في أغلب أحوال القتال، فلم تكن حالة القتال تعدى إليها بفي المقتضية للظرفية الحسية التي نزل المعنى المعقول فيها، كالجرم المحسوس، وعطف هذه الصفات في هذه الآية بالواو يدل على أن من شرائط البر استكمالها وجمعها، فمن قام بواحدة منها لم يوصف بالبر، ولذلك خص بعض العلماء هذا بالأنبياء عليهم السلام، قال : لأن غيرهم لا يجتمع فيه هذه الأوصاف كلها، وقد تقدم الكلام على ذلك.
أُولئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ أشار : بأولئك، إلى الذين جمعوا تلك الأوصاف الجلية، من الاتصاف بالإيمان وما بعده، وقد تقدم لنا أن اسم الإشارة يؤتى به لهذا المعنى، أي : يشار به إلى من جمع عدة أوصاف سابقة، كقوله : أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ «١» والصدق هنا يحتمل أن يراد به الصدق في الأقوال فيكون مقابل الكذب والمعنى : أنهم يطابق أقوالهم ما انطوت عليه قلوبهم من الإيمان والخبر فإذا أخبروا بشيء كان صدقا لا يتطرق إليه الكذب، ومنه :
«لا يزال الرجل يصدق، ويتحرى الصدق، حتى يكتب عند اللّه صادقا، ولا يزال الرجل يكذب، ويتحرى الكذب، حتى يكتب عند اللّه كذابا».
ويحتمل أن يراد بالصدق : الصدق في الأحوال، وهو مقابل الرياء أي : أخلصوا أعمالهم للّه تعالى دون رياء ولا سمعة، بل قصدوا وجه اللّه تعالى، وكانوا عند الظن بهم،

_
(١) سورة البقرة : ٢/ ٥.


الصفحة التالية
Icon