البحر المحيط، ج ٢، ص : ١٧
وعلم غير اللّه تعالى حادث، فيصح تعليل الجعل بالعلم الحادث، وكان التقدير : ليعلم الرسول والمؤمنون. وأتى بلفظ الرسول، ولم يجر على ذلك الخطاب في قوله : كُنْتَ عَلَيْها، فكان يكون الكلام من يتبعك، لما في لفظه من الدلالة على الرسالة. وجاء الخطاب مكتنفا بذكر الرسول مرّتين، لما في ذلك من الفصاحة والتفنن في البلاغة، وليعلم أن المخاطب هو الموصوف بالرسالة. ولما كانت الشهادة والمتبوعية من الأمور الإلهية خاصة، أتى بلفظ الرسول، ليدل على أن ذلك هو مختص بالتبليغ المحض. ولما كان التوجه إلى الكعبة توجها إلى المكان الذي ألفه الإنسان، وله إلى ذلك نزوع، أتى بالخطاب دون لفظ الرسالة، فقيل : الَّتِي كُنْتَ عَلَيْها، فهذه، واللّه أعلم، حكمة الالتفات هنا. وقوله : يَنْقَلِبُ عَلى عَقِبَيْهِ كناية عن الرجوع عما كان فيه من إيمان أو شغل. والرجوع على العقب أسوأ أحوال الراجع في مشيه على وجهه، فلذلك شبه المرتدّ في الدين به. والمعنى : أنه كان متلبسا بالإيمان، فلما حوّلت القبلة، ارتاب فعاد إلى الكفر، فهذا انقلاب معنوي، والانقلاب الحقيقي هو الرجوع إلى المكان الذي خرج منه.
وقوله : عَلى عَقِبَيْهِ في موضع الحال، أي ناكصا على عقبيه، ومعناه أنه رجع إلى ما كان عليه، لم يخلّ في رجوعه بأنه عاد من حيث جاء إلى الحالة الأولى التي كان عليها، فهو قد ولي عما كان أقبل عليه، ومشى أدراجه التي تقدّمت له، وذلك مبالغة في التباسه بالشيء الذي يوصله إلى الأمر الذي كان فيه أوّلا. قالوا : وقد اختلفوا في أن هذه المحنة حصلت بسبب تعيين القبلة، أو بسبب تحويلها. فقيل : بالأول، لأنه كان يصلي إلى الكعبة، ثم صلى إلى بيت المقدس، فشق ذلك على العرب من حيث أنه ترك قبلتهم ثم صلى إلى الكعبة، فشق ذلك على اليهود من حيث أنه ترك قبلتهم. وقال الأكثرون بالقول الثاني، قالوا : لو كان محمد على يقين من أمره، لما تغير رأيه. وروي أنه رجع ناس ممن أسلم وقالوا : مرة هنا ومرة هنا، وهذا أشبه، لأن الشبهة في أمر النسخ أعظم من الشبهة الحاصلة بتعيين القبلة، وقد وصفها اللّه بالكبر في قوله : وَإِنْ كانَتْ لَكَبِيرَةً. وقرأ ابن أبي إسحاق : على عقبيه، بسكون القاف وتسكين عين فعل، اسما كان أو فعلا، لغة تميمية، وقد تقدّم ذكر ذلك.
وَإِنْ كانَتْ لَكَبِيرَةً إِلَّا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ : اسم كانت مضمر يعود على التولية عن البيت المقدس إلى الكعبة، قاله ابن عباس ومجاهد وقتادة، وتحريره من جهة علم العربية أنه عائد على المصدر المفهوم من قوله : وَما جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ، أي وإن كانت