البحر المحيط، ج ٢، ص : ٢٢
انتهى. وشرحه هذا على التحقيق متضادّ، لأنه شرح قد نرى بربما نرى. ورب، على مذهب المحققين من النحويين، إنما تكون لتقليل الشيء في نفسه، أو لتقليل نظيره.
ثم قال : ومعناه كثرة الرؤية، فهو مضادّ لمدلول رب على مذهب الجمهور. ثم هذا المعنى الذي ادّعاه، وهو كثرة الرؤية، لا يدل عليه اللفظ، لأنه لم يوضع لمعنى الكثرة. هذا التركيب، أعني تركيب قد مع المضارع المراد منه الماضي، ولا غير المضي، وإنما فهمت الكثرة من متعلق الرؤية، وهو التقلب، لأن من رفع بصره إلى السماء مرة واحدة، لا يقال فيه : قلب بصره في السماء، وإنما يقال : قلب إذا ردّد. فالتكثير، إنما فهم من التقلب الذي هو مطاوع التقليب، نحو : قطعته فتقطع، وكسرته فتكسر، وما طاوع التكثير ففيه التكثير.
والوجه هنا قيل : أريد به مدلول ظاهره.
قال قتادة والسدّي وغيرهما : كان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يقلب وجهه في الدعاء إلى اللّه تعالى أن يحوله إلى قبلة مكة.
وقيل : كان يقلب وجهه ليؤذن له في الدعاء. وقال الزمخشري : كان يتوقع من ربه أن يحوله إلى الكعبة، لأنها قبلة أبيه إبراهيم، وأدعى للعرب إلى الإيمان، لأنها مفخرهم ومزارهم ومطافهم، ولمخالفة اليهود، فكان يراعي نزول جبريل عليه السلام والوحي بالتحويل. انتهى كلامه، وهو كلام الناس قبله. فالأول : قول ابن عباس، وهو ليصيب قبلة إبراهيم. والثاني : قول السدّي والربيع، وهو ليتألف العرب لمحبتها في الكعبة. والثالث : قول مجاهد، وهو قول اليهود : ما علم محمد دينه حتى اتبعنا، فأراد مخالفتهم. وقيل : كنى بالوجه عن البصر، لأنه أشرف، وهو المستعمل في طلب الرغائب. تقول : بذلت وجهي في كذا، وفعلت لوجه فلان. وقال :
رجعت بما أبغي ووجهي بمائه وهو من الكناية بالكل عن الجزء، ولا يحسن أن يقال : إنه على حذف مضاف، ويكون التقدير بصر وجهك، لأن هذا لا يكاد يستعمل، إنما يقال : بصرك وعينك وأنفك لا يكاد يقال : أنف وجهك، ولا خد وجهك. في السماء : متعلق بالمصدر، وهو تقلب، وهو يتعدى بفي، فهي على ظاهرها. قال تعالى : لا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلادِ «١»، أي في نواحي السماء، في هذه الجهة، وفي هذه الجهة. وقيل : في بمعنى إلى. وقيل : في السماء متعلق بنرى، وفي : بمعنى من، أي قد نرى من السماء تقلب وجهك، وإن كان اللّه تعالى يرى من كل مكان، ولا تتحيز رؤيته بمكان دون مكان. وذكرت

_
(١) سورة آل عمران : ٣/ ١٩٦.


الصفحة التالية
Icon