البحر المحيط، ج ٢، ص : ٢٦
تحريكا لهم بأن يعملوا بما علموا من الحق، لأن المواجهة بالشيء تقتضي شدة الإنكار وعظم الشيء الذي ينكر. ومن قرأ بالياء، فالظاهر أنه عائد على أهل الكتاب لمجيء ذلك في نسق واحد من الغيبة. وعلى كلتا القراءتين، فهو إعلام بأن اللّه تعالى لا يهمل أعمال العباد، ولا يغفل عنها، وهو متضمن الوعيد.
وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ بِكُلِّ آيَةٍ ما تَبِعُوا قِبْلَتَكَ هذه تسلية للرسول عن متابعة أهل الكتاب له. أعلمه أولا أنهم يعلمون أنه الحق، وهم يكتمونه، ولا يرتبون على العلم به مقتضاه. ثم سلاه عن قبولهم الحق، بأنهم قد انتهوا في العناد وإظهار المعاداة إلى رتبة، لو جئتهم فيها بجميع المعجزات التي كل معجزة منها تقتضي قبول الحق، ما تبعوك ولا سلكوا طريقك. وإذا كانوا لا يتبعونك، مع مجيئك لهم بجميع المعجزات، فأحرى أن لا يتبعوك إذا جئتهم بمعجزة واحدة. والمعنى : بكل آية يدل على أن توجهك إلى الكعبة هو الحق. واللام في : ولئن، هي التي تؤذن بقسم محذوف متقدم. فقد اجتمع القسم المتقدّم المحذوف، والشرط متأخر عنه، فالجواب للقسم وهو قوله : ما تَبِعُوا، ولذلك لم تدخله الفاء. وجواب الشرط محذوف لدلالة جواب القسم عليه، وهو منفي بما ماضي الفعل مستقبل. المعنى : أي ما يتبعون قبلتك، لأن الشرط قيد في الجملة، والشرط مستقبل، فوجب أن يكون مضمون الجملة مستقبلا، ضرورة أن المستقبل لا يكون شرطا في الماضي. ونظير هذا التركيب في المثبت قوله تعالى : وَلَئِنْ أَرْسَلْنا رِيحاً فَرَأَوْهُ مُصْفَرًّا لَظَلُّوا مِنْ بَعْدِهِ يَكْفُرُونَ «١»، التقدير : ليظلنّ أوقع الماضي المقرون باللام جوابا للقسم المحذوف، ولذلك دخلت عليه اللام موقع المستقبل، فهو ماض من حيث اللفظ، مستقبل من حيث المعنى، لأن الشرط قيد فيه، كما ذكرنا. وجواب الشرط في الآيتين محذوف، سد مسده جواب القسم، ولذلك أتى فعل الشرط ماضيا في اللفظ، لأنه إذا كان الجواب محذوفا، وجب مضى فعل الشرط لفظا، إلا في ضرورة الشعر، فقد يأتي مضارعا.
وذهب الفرّاء إلى أن إن هنا بمعنى لو، ولذلك كانت ما في الجواب، فجعل ما تبعوا جوابا لإن، لأن إن بمعنى لو، فكما أن لو تجاب بما، كذلك أجيبت إن التي بمعنى لو، وإن كان إن إذا لم يكن بمعنى لو، لم يكن جوابها مصدرا بما، بل لا بد من الفاء. تقول : إن تزرني فما أزورك، ولا يجوز : ما أزورك. وعلى هذا يكون جواب القسم محذوفا لدلالة جواب إن عليه. وهذا الذي قاله الفرّاء هو بناء على مذهبه أن القسم إذا تقدّم على الشرط، جاز أن

_
(١) سورة الروم : ٣٠/ ٥١.


الصفحة التالية
Icon