البحر المحيط، ج ٢، ص : ٢٨
الكتاب وتبعوا قبلته. واختلفوا في قوله : ما تَبِعُوا قِبْلَتَكَ. قال الحسن والجبائي : أراد جميعهم، كأنه قال : لا يجتمعون على اتباع قبلتك، على نحو : وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدى «١»، ويكون إذ ذاك إخبارا عن المجموع، من حيث هو مجموع، لا حكم على الأفراد. وقال الأصم : بل المراد أن أحدا منهم لا يؤمن. وقد تقدم أن من قول الأصم : أنه أريد بأهل الكتاب الخصوص، فكأنه قال : كل فرد فرد من أولئك المختصين بالعناد، المستمرّين على جحود الحق، لا يؤمن ولا يتبع قبلتك. وقد احتج أبو مسلم بهذه الآية، على أن علم اللّه في عباده وفيما يفعلونه، ليس بحجة لهم فيما يرتكبون، وأنهم مستطيعون لأن يفعلوا الخير الذي أمروا به، ويتركوا ضده الذي نهوا عنه. قيل : واحتج أصحابنا به على القول بتكليف ما لا يطاق، وهو أنه أخبر عنهم أنهم لا يتبعون قبلته، فلو اتبعوا قبلته، لزم انقلاب خبر اللّه الصدق كذبا، وعلمه جهلا، وهو محال، وما استلزم المحال فهو محال. وأضاف تعالى القبلة إليه، لأنه المتعبد بها والمقتدى به في التوجه إليها. أيأس اللّه نبيه من اتباعهم قبلته، لأنهم لم يتركوا اتباعه عن دليل لهم وضح، ولا عن شبهة عرضت، وإنما ذلك على سبيل العناد، ومن نازع عنادا فلا يرجى منه انتزاع.
وَما أَنْتَ بِتابِعٍ قِبْلَتَهُمْ : هذه جملة خبرية. قيل : ومعناها النهي، أي لا تتبع قبلتهم، ومعناها : الدوام على ما أنت عليه، وإلا فهو معصوم عن اتباع قبلتهم بعد ورود الأمر. وقيل : هي باقية على معنى الخبر، وهو أنه بين بهذا الإخبار أن هذه القبلة لا تصير منسوخة، فجاءت هذه الجملة رفعا لتجويز النسخ، أو قطع بذلك رجاء أهل الكتاب، فإنهم قالوا : يا محمد، عد إلى قبلتنا، ونؤمن بك ونتبعك، مخادعة منهم، فأيأسهم اللّه من اتباعه قبلتهم، أو بين بذلك حصول عصمته، أو أخبر بذلك على سبيل التعذر لاختلاف قبلتيهم، أو جاء ذلك على سبيل المقابلة، أي ما هم بتاركي باطلهم، وما أنت بتارك حقك. وأفرد القبلة في قوله : قبلتهم، وإن كانت مثناة، إذ لليهود قبلة، وللنصارى قبلة مغايرة لتلك القبلة، لأنهما اشتركتا في كونهما باطلتين، فصار الاثنان واحدا من جهة البطلان، وحسن ذلك المقابلة في اللفظ، لأن قبله ما تَبِعُوا قِبْلَتَكَ.
وهذه الجملة أبلغ في النفي من حيث كانت اسمية تكرر فيها الاسم مرتين، ومن حيث أكد النفي بالباء في قوله : بِتابِعٍ، وهي مستأنفة معطوفة على الكلام قبلها، لا على الجواب وحده، إذ لا يحل محله، لأن نفي تبعيتهم لقبلته مقيد بشرط لا يصح أن يكون قيدا في نفي تبعيته قبلتهم.
(١) سورة الأنعام : ٦/ ٣٥.