البحر المحيط، ج ٢، ص : ٢٩
وقرأ بعض القراء : بتابع قبلتهم على الإضافة، وكلاهما فصيح، أعني إعمال اسم الفاعل هنا وإضافته، وقد تقدم في أيهما أقيس.
وَما بَعْضُهُمْ بِتابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ : الضمير في بعضهم عائد على أهل الكتاب.
والمعنى : أن اليهود لا يتبعون قبلة النصارى، ولا النصارى تتبع قبلة اليهود، وذلك إشارة إلى أن اليهود لا تتنصّر، وإلى أن النصارى لا تتهود، وذلك لما بينهما من إفراط العداوة والتباغض. وقد رأينا اليهود والنصارى كثيرا ما يدخلون في ملة الإسلام، ولم يشاهد يهوديا تنصر، ولا نصرانيا تهوّد. والمراد بالبعضين : من هو باق على دينه من أهل الكتاب، هذا قول السدي وابن زيد، وهو الظاهر. وقيل : أحد البعضين من آمن من أهل الكتاب، والبعض الثاني من كان على دينه منهم، لأن كلا منهما يسفه حلم الآخر ويكفره، إذ تباينت طريقتهما. ألا ترى إلى مدح اليهود عبد اللّه بن سلام قبل أن يعلموا بإسلامه وبهتهم له بعد ذلك؟ وتضمنت هذه الجمل : أن أهل الكتاب، وإن اتفقوا على خلافك، فهم مختلفون في القبلة، وقبلة اليهود بيت المقدس، وقبلة النصارى مطلع الشمس.
وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْواءَهُمْ، اللام أيضا مؤذنة بقسم محذوف، ولذلك جاء الجواب بقوله : إنك، وتعليق وقوع الشيء على شرط لا يقتضي إمكان ذلك الشرط. يقول الرجل لامرأته : إن صعدت إلى السماء فأنت طالق، ومعلوم امتناع صعودها إلى السماء. وقال تعالى في الملائكة الذين أخبر عنهم : أنهم : لا يَعْصُونَ اللَّهَ ما أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ «١»، قال : وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلهٌ مِنْ دُونِهِ فَذلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ كَذلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ «٢»، وإذا اتضح ذلك سهل ما ورد من هذا النوع. وفهم من ذلك الاستحالة، لأن المعلق على المستحيل مستحيل. ويصير معنى هذه الجملة، التي ظاهرها الوقوع على تقدير امتناع الوقوع، ويصير المعنى : لا يعد ظالما، ولا تكونه، لأنك لا تتبع أهواءهم، وكذلك لا يحبط عملك، لأن إشراكك ممتنع، وكذلك لا يجزي أحد من الملائكة جهنم، لأنه لا يدعي أنه إله. وقالوا : ما خوطب به من هو معصوم مما لا يمكن وقوعه منه، فهو محمول على إرادة أمته، ومن يمكن وقوع ذلك منه، وإنما جاء الخطاب له على سبيل التعظيم لذلك الأمر، والتفخيم لشأنه، حتى يحصل التباعد منه. ونظير ذلك قولهم : إياك أعني : واسمعي يا جارة.
(١) سورة التحريم : ٦٦/ ٦.
(٢) سورة الأنبياء : ٢١/ ٢٩.