البحر المحيط، ج ٢، ص : ٣٢
إذن أنا أكرمك، وجاز توسطها نحو : أنا إذا أكرمك، وتأخرها. وإذا تقرر هذا، فجاءت إذا في الآية مؤكدة للجواب المرتبط بما تقدم، وإنما قررت معناها هنا لأنها كثيرة الدور في القرآن، فتحمل في كل موضع على ما يناسب من هذا الذي قررناه.
الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ : هم علماء اليهود والنصارى، أو من آمن برسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم من اليهود، كابن سلام وغيره، أو من آمن به مطلقا، أقوال. والكتاب : التوراة، أو الإنجيل، أو مجموعهما، أو القرآن. أقوال تنبني على من المراد بالذين آتيناهم، ولفظ آتيناهم أبلغ من أوتوا، لإسناد الإيتاء إلى اللّه تعالى، معبرا عنه بنون العظمة، وكذا ما يجيء من نحو هذا، مرادا به الإكرام نحو : هدينا، واجتبينا، واصطفينا. قيل : ولأن أوتوا قد يستعمل فيما لم يكن له قبول، وآتيناهم أكثر ما يستعمل فيما له قبول نحو : الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ «١»، وإذ أريد بالكتاب أكثر من واحد، فوحد، لأنه صرف إلى المكتوب المعبر عنه بالمصدر.
يَعْرِفُونَهُ : جملة في موضع الخبر عن المبتدأ الذي هو الذين آتيناهم، وجوز أن يكون الذين مجرورا على أنه صفة للظالمين، أو على أنه بدل من الظالمين، أو على أنه بدل من الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ في الآية التي قبلها، ومرفوعا على أنه خبر مبتدأ محذوف، أي هم الذين، ومنصوبا على إضمار، أعني : وعلى هذه الأعاريب يكون قوله :
يَعْرِفُونَهُ، جملة في موضع الحال، إما من المفعول الأول في آتيناهم، أو من الثاني الذي هو الكتاب، لأن في يعرفونه ضميرين يعودان عليهما. والظاهر هو الإعراب الأول، لاستقلال الكلام جملة منعقدة من مبتدأ وخبر، ولظاهر انتهاء الكلام عند قوله : إِنَّكَ إِذاً لَمِنَ الظَّالِمِينَ. والضمير المنصوب في يعرفونه عائد على النبي صلى اللّه عليه وسلم، قاله مجاهد وقتادة وغيرهما. وروي عن ابن عباس، واختاره الزجاج، ورجحه التبريزي، وبدأ به الزمخشري فقال : يعرفونه معرفة جلية، يميزون بينه وبين غيره بالوصف المعين المشخص. قال الزمخشري وغيره : واللفظ للزمخشري، وجاز الإضمار، وإن لم يسبق له ذكر، لأن الكلام يدل عليه ولا يلتبس على السامع، ومثل هذا الإضمار فيه تفخيم وإشعار بأنه لشهرته وكونه علما معلوم بغير إعلام. انتهى. وأقول : ليس كما قالوه من أنه إضمار قبل الذكر : بل هذا من باب الالتفات، لأنه قال تعالى : قَدْ نَرى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّماءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً
(١) سورة الأنعام : ٦/ ٨٩.