البحر المحيط، ج ٢، ص : ٦٠٣
عليّ بأن يسلبهم القوى والعقول التي يكون بها التكليف، ولكن كلفهم فاختلفوا بالكفر والإيمان. وقال عليّ بن عيسى : هذه مشيئة القدرة، مثل : وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً «١» ولم يشأ ذلك، وشاء تكليفهم فاختلفوا وقال الزمخشري : ولو شاء اللّه مشيئة إلجاء وقسر، وجواب لو : ما اقتتل، وهو فعل منفي بما، فالفصيح أن لا يدخل عليه اللام كما في الآية، ويجوز في القليل أن تدخل عليه اللام، فتقول : لو قام زيد لما قام عمرو، و : من بعدهم صلة للذين، فيتعلق بمحذوف أي : الذين كانوا من بعدهم، والضمير عائد على الرسل، وقيل : عائد على موسى وعيسى وأتباعهما.
وظاهر الكلام أنهم القوم الذين كانوا من بعد جميع الرسل، وليس كذلك، بل المراد : ما اقتتل الناس بعد كل نبي، فلف الكلام لفا لم يفهمه السامع وهذا كما تقول :
اشتريت خيلا ثم بعتها، وإن كنت قد اشتريتها فرسا فرسا وبعته، وكذلك هذا، إنما اختلف بعد كل نبي، و : من بعد، قيل : بدل من بعدهم، والظاهر أنه متعلق بقوله ما اقتتل، إذ كان في البينات، وهي الدلائل الواضحة، ما يفضي إلى الاتفاق وعدم التقاتل، وغنية عن الاختلاف الموجب للتقاتل.
وَلكِنِ اخْتَلَفُوا هذا الاستدراك واضح لأن ما قبلها ضدّ لما بعدها، لأن المعنى :
لو شاء الاتفاق لاتفقوا، ولكن شاء الاختلاف فاختلفوا.
فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ من آمن بالتزامه دين الرسل واتباعهم، ومن كفر باعراضه عن اتباع الرسل حسدا وبغيا واستئثارا بحطام الدنيا.
وَلَوْ شاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا قيل : الجملة تكررت توكيدا للأولى، قاله الزمخشري.
وقيل : لا توكيد لاختلاف المشيئتين، فالأولى : ولو شاء اللّه أن يحول بينهم وبين القتال بأن يسلبهم القوى والعقول، والثانية : ولو شاء اللّه أن يأمر المؤمنين بالقتال، ولكن أمر وشاء أن يقتتلوا، وتعلق بهذه الآية مثبتو القدر ونافوه، ولم يزل ذلك مختلفا فيه حتى كان الأعشى في الجاهلية نافيا حيث قال :
استأثر اللّه بالوفاء وبالعد ل وولى الملامة الرجلا
وكان لبيد مثبتا حيث قال :
(١) سورة يونس : ١٠/ ٩٩.