البحر المحيط، ج ٢، ص : ٦٢٦
أَنْ آتاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ الظاهر أن الضمير في : آتاه، عائد على : الذي حاج، وهو قول الجمهور، و : أن آتاه، مفعول من أجله على معنيين : أحدهما : أن الحامل له على المحاجة هو ايتاؤه الملك، أبطره وأورثه الكبر والعتوّ، فحاج لذلك. والثاني : أنه وضع المحاجة موضع ما وجب عليه من الشكر للّه تعالى على ايتائه الملك، كما تقول : عاداني فلان لأني أحسنت إليه، تريد أنه عكس ما كان يجب عليه من الموالاة لأجل الإحسان.
ومنه : وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ «١» وأجاز الزمخشري أن يكون التقدير : حاج وقت أن آتاه اللّه الملك، فإن عنى أن ذلك على حذف مضاف، فيمكن ذلك على أن فيه بعدا من جهة أن المحاجة لم تقع وقت أن آتاه اللّه الملك. إلّا أن يجوز في الوقت، فلا يحمل على ما يقتضيه الظاهر من أنه وقت ابتداء إيتاء اللّه الملك له، ألا ترى أن إيتاء اللّه الملك إياه سابق على الحاجة وإن عنى أن : أن والفعل، وقعت موقع المصدر الواقع موقع ظرف الزمان؟ كقولك : جئت خفوق النجم، ومقدم الحاج، وصياح الديك؟ فلا يجوز ذلك، لأن النحويين مضوا على أنه لا يقوم مقام ظرف الزمان إلا المصدر المصرح بلفظه، فلا يجوز : أجىء أن يصيح الديك، ولا جئت أن صاح الديك. وقال المهدوي : يحتمل أن يعود الضمير على إبراهيم : أي آتاه ملك النبوّة.
قال ابن عطية : وهذا تحامل من التأويل. انتهى. وما ذكره المهدوي احتمالا هو قول المعتزلة، قالوا : الهاء كناية عن إبراهيم لا عن الكافر الذي حاجه، لأن اللّه تعالى قال : لا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ «٢» والملك عهد منه، وقال تعالى : أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلى ما آتاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ فَقَدْ آتَيْنا آلَ إِبْراهِيمَ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْناهُمْ مُلْكاً عَظِيماً «٣» ورد قول المعتزلة بأن إبراهيم ما عرف بالملك، وبقول الكافر : أنا أحيي وأميت، ولو كان إبراهيم الملك لما كان يقدر على محاجته في مثل هذه الحالة، وبأنه لما قال : أنا أحيي وأميت، جاء برجلين فقتل أحدهما وترك الآخر، ولو لم يكن ملكا لم يقتل بين يدي إبراهيم بغير إذنه، إذ كان إبراهيم هو الملك، ولا يردّ على المعتزلة بهذه الأوجه، لأن إثبات ملك النبوّة لإبراهيم لا ينافي ملك الكافر، لأنهما ملكان :
أحدهما : بفضل الشرف في الدين كالنبوّة والإمامة. والآخر : بفضل المال والقوّة والشجاعة والقهر والغلبة والاتباع. وحصول الملك للكافر بهذا المعنى يمكن، بل هو واقع مشاهد.

_
(١) سورة الواقعة : ٥٦/ ٨٢.
(٢) سورة البقرة : ٢/ ١٢٤.
(٣) سورة النساء : ٤/ ٥٤. [.....]


الصفحة التالية
Icon