البحر المحيط، ج ٢، ص : ٦٣٩
القشيري، عرف بابن دقيق العيد وسألني أن أكتب له فيها، وكان سؤاله في
قوله عليه السلام :«فإن أحدكم لا يدري أين باتت يده»
. ثُمَّ نَكْسُوها لَحْماً الكسوة حقيقة هي ما وارى الجسد من الثياب، واستعارها هنا لما أنشأ من اللحم الذي غطى به العظم. كقوله : فَكَسَوْنَا الْعِظامَ لَحْماً «١» وهي استعارة في غاية الحسن، إذ هي استعارة عين لعين، وقد جاءت الاستعارة في المعنى للجرم. قال النابغة :
الحمد للّه إذ لم يأتني أجلي حتى اكتسيت من الإسلام سربالا
وروي أنه كان يشاهد اللحم والعصب والعروق كيف تلتئم وتتواصل
، والذي يدل عليه ظاهر اللفظ : أن قول اللّه له كان بعد تمام بعثه، لا أن القول كان بعد إحياء بعضه.
والتعقيب بالفاء في قوله : فانظر إلى آخره، يدل على أن العظام لا يراد بها عظام نفسه، وتقدّم ذكر شيء من هذا، إلّا إن كان وضع : ننشرها، مكان : أنشرتها، و : نكسوها، مكان : كسوتها، فيحتمل. وتكرر الأمر بالنظر إلى الطعام والشراب في الثلاث الخوارق، ولم ينسق نسق المفردات، لأن كل واحد منها خارق عظيم، ومعجز بالغ، وبدأ أولا بالنظر إلى العظام والشراب حيث لم يتغيرا على طول هذه المدة، لأن ذلك أبلغ، إذ هما من الأشياء التي يتسارع إليها الفساد، إذ ما قام به الحياة وهو الحمار يمكن بقاؤه الزمان الطويل، ويمكن أن يحتش بنفسه ويأكل ويرد المياه. كما
قال صلى اللّه عليه وسلم في ضالة الإبل :«معها سقاؤها وحذاؤها ترد الماء وتأكل الشجر حتى يأتيها ربها»
. ولما أمر بالنظر إلى الطعام والشراب، وبالنظر إلى الحمار، وهذه الأشياء هي التي كانت صحبته، وقال تعالى :
وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِلنَّاسِ أي فعلنا ذلك : ولما كان قوله : وَانْظُرْ إِلى حِمارِكَ كالمجمل، بين له جهة النظر بالنسبة إلى الحمار، فجاء النظر الثالث توضيحا للنظر الثاني، من أي جهة ينظر إلى الحمار، وهي جهة إحيائه وارتفاع عظامه شيئا فشيئا عند التركيب وكسوتها اللحم، فليس نظرا مستقلا، بل هو من تمام النظر الثاني، فلذلك حسن الفصل بين النظرين بقوله :
وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِلنَّاسِ.
وليس في الكلام تقديم وتأخير كما زعم بعضهم، وأن الأنظار منسوق بعضها على بعض، وأن قوله : وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِلنَّاسِ إلخ هو مقدّم في اللفظ، مؤخر في الرتبة.
(١) سورة المؤمنون : ٢٣/ ١٤.