البحر المحيط، ج ٢، ص : ٧٠
الفظيع من لعنة اللّه ولعنة اللاعنين على هذا الذنب العظيم، وهو كتمان ما أنزل اللّه تعالى، وقد بينه وأوضحه للناس بحيث لا يقع فيه لبس، فعمدوا إلى هذا الواضح البين فكتموه، فاستحقوا بذلك هذا العقاب. وجاء بأولئك اسم الإشارة البعيد، تنبيها على ذلك الوصف القبيح، وأبرز الخبر في صورة جملتين توكيدا وتعظيما، وأتى بالفعل المضارع المقتضي التجدد لتجدد مقتضيه، وهو قوله تعالى : إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ. ولذلك أتى صلة الذين فعلا مضارعا ليدل أيضا على التجدد، لأن بقاءهم على الكتمان هو تجدد كتمان. وجاء بالجملة المسند فيها الفعل إلى اللّه، لأنه هو المجازي على ما اجترحوه من الذنب. وجاءت الجملة الثانية، لأن لعنة اللاعنين مترتبة على لعنة اللّه للكاتمين. وأبرز اسم الجلالة بلفظ اللّه على سبيل الالتفات، إذ لو جرى على نسق الكلام السابق، لكان أولئك يلعنهم، لكن في إظهار هذا الاسم من الفخامة ما لا يكون في الضمير. واللاعنون : كل من يتأتى منهم اللعن، وهم الملائكة ومؤمنو الثقلين، قاله الربيع بن أنس أو كل شيء من حيوان وجماد غير الثقلين، قاله ابن عباس والبرّاء بن عازب، إذا وضع في قبره وعذب فصاح، إذ يسمعه كل شيء إلا الثقلين أو البهائم والحشرات، قاله مجاهد وعكرمة، وذلك لما يصيبهم من الجدب بذنوب علماء السوء الكاتمين، أو الطاردون لهم إلى النار حين يسوقونهم إليها، لأن اللعن هو الطرد أو الملائكة قاله قتادة أو المتلاعنون، إذا لم يستحق أحد منهم اللعن انصرف إلى اليهود، قاله ابن مسعود والأظهر القول الأول. ومن أطلق اللاعنون على ما لا يعقل أجراه مجرى ما يعقل، إذ صدرت منه اللعنة، وهي من فعل من يعقل، وذلك لجمعه بالواو والنون. وفي قوله : وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ، ضرب من البديع، وهو التجنيس المغاير، وهو أن يكون إحدى الكلمتين اسما والأخرى فعلا.
إِلَّا الَّذِينَ تابُوا : هذا استثناء متصل، ومعنى تابوا عن الكفر إلى الإسلام، أو عن الكتمان إلى الإظهار. وَأَصْلَحُوا ما أفسدوا من قلوبهم بمخالطة الكفر لها، أو ما أفسدوا من أحوالهم مع اللّه، أو أصلحوا قومهم بالإرشاد إلى الإسلام بعد الإضلال. وَبَيَّنُوا :
أي الحق الذي كتموه، أو صدق توبتهم بكسر الخمر وإراقتها، أو ما في التوراة والإنجيل من صفة محمد صلى اللّه عليه وسلم، أو اعترفوا بتلبيسهم وزورهم، أو ما أحدثوا من توبتهم، ليمحوا سيئة الكفر عنهم ويعرفوا بضد ما كانوا يعرفون به، ويقتدي بهم غيرهم من المفسدين.
فَأُولئِكَ : إشارة إلى من جمع هذه الأوصاف من التوبة والإصلاح والتبيين. أَتُوبُ عَلَيْهِمْ : أي أعطف عليهم، ومن تاب اللّه عليه لا تلحقه لعنة. وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ :