البحر المحيط، ج ٢، ص : ٧٩
في البحر حصاة لغرقت. ووصفها بهذه الصفة من الجريان، لأنها آيتها العظمى، وجعل الصفة موصولا، صلته تجري : فعل مضارع يدل على تجدد ذلك الوصف لها في كل وقت يراد منها. وذكر مكان تلك الصفة على سبيل التوكيد، إذ من المعلوم أنها لا تجري إلا في البحر. والألف واللام فيه للجنس، وأسند الجريان للفلك على سبيل التوسع، وكان لها من ذاتها صفة مقتضية للجري. بِما يَنْفَعُ النَّاسَ : يحتمل أن تكون ما موصولة، أي تجري مصحوبة بالأعيان التي تنفع الناس من أنواع المتاجر والبضائع المنقولة من بلد إلى بلد، فتكون الباء للحال. ويحتمل أن تكون ما مصدرية، أي ينفع الناس في تجاراتهم وأسفارهم للغز والحج وغيرهما، فتكون الباء للسبب. واقتصر على ذكر النفع، وإن كانت تجري بما يضر، لأنه ذكرها في معرض الامتنان.
وَما أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّماءِ مِنْ ماءٍ : أي من جهة السماء. من الأولى لابتداء الغاية تتعلق بأنزل، وفي أنزل ضمير نصب عائد على ما، أي والذي أنزله اللّه من السماء. ومن الثانية مع ما بعدها بدل من قوله : مِنَ السَّماءِ، بدل اشتمال، فهو على نية تكرار العامل، أو لبيان الجنس عند من يثبت لها هذا المعنى، أو للتبعيض، وتتعلق بأنزل. ولا يقال : كيف تتعلق بأنزل من الأولى والثانية، لأن معنييهما مختلفان. فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها : عطف على صلة ما، الذي هو أنزل بالفاء المقتضية للتعقيب وسرعة النبات، وبه عائد على الموصول. وكنى بالإحياء عن ظهور ما أودع فيها من النبات، وبالموت عن استقرار ذلك فيها وعدم ظهوره. وهما كنايتان غريبتان، لأن ما برز منها بالمطر جعل تعالى فيه القوة الغاذية والنامية والمحركة، وما لم يظهر فهو كامن فيها، كأنه دفين فيها، وهي له قبر.
وَبَثَّ فِيها مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ : إن قدرت هذه الجملة معطوفة على ما قبلها من الصلتين، احتاجت إلى ضمير يعود على الموصول، لأن الضمير في فيها عائد على الأرض وتقديره : وبث فيها من كل دابة. لكن حذف هذا الضمير، إذا كان مجرورا بالحرف، له شرط، وهو أن يدخل على الموصول، أو الموصوف بالموصول، أو المضاف إلى الموصول حرف جر، مثل ما دخل على الضمير لفظا ومعنى، وأن يتحد ما تعلق به الحرفان لفظا ومعنى، وأن لا يكون ذلك المجرور العائد على الموصول وجاره في موضع رفع، وأن لا يكون محصورا، ولا في معنى المحصور، وأن يكون متعينا للربط. وهذا الشرط مفقود هنا. قال الزمخشري : فإن قلت قوله : وَبَثَّ فِيها، عطف على أنزل أم أحيا؟ قلت :
الظاهر أنه عطف على أنزل داخل تحت حكم الصلة، لأن قوله : فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ عطف


الصفحة التالية
Icon