البحر المحيط، ج ٢، ص : ٩
السفهاء من الناس، وهم اليهود : ما ولاهم عن قبلتهم التي كانوا عليها، فقال اللّه تعالى :
قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ الآية. ومناسبة هذه الآية لما قبلها : أن اليهود والنصارى قالوا :
إن إبراهيم، ومن ذكر معه، كانوا يهودا ونصارى. ذكروا ذلك طعنا في الإسلام، لأن النسخ عند اليهود باطل، فقالوا : الانتقال عن قبلتنا باطل وسفه، فرد اللّه تعالى ذلك عليهم بقوله :
قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ الآية، فبين ما كان هداية، وما كان سفها. وسيقول، ظاهر في الاستقبال، وأنه إخبار من اللّه تعالى لنبيه صلى اللّه عليه وسلم، أنه يصدر منهم هذا القول في المستقبل، وذلك قبل أن يؤمروا باستقبال الكعبة، وتكون هذه الآية متقدمة في النزول على الآية المتضمنة الأمر باستقبال الكعبة، فتكون من باب الإخبار بالشيء قبل وقوعه، ليكون ذلك معجزا، إذ هو إخبار بالغيب. ولتتوطن النفس على ما يرد من الأعداء، وتستعد له، فيكون أقل تأثيرا منه إذا فاجأ، ولم يتقدم به علم، وليكون الجواب مستعدا لمنكر ذلك، وهو قوله : قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ. وإلى هذا القول ذهب الزمخشري وغيره. وذهب قوم إلى أنها متقدمة في التلاوة، متأخرة في النزول، وأنه نزل قوله : قَدْ نَرى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ الآية، ثم نزل : سَيَقُولُ السُّفَهاءُ مِنَ النَّاسِ. نص على ذلك ابن عباس وغيره. ويدل على هذا ويصححه حديث البراء المتقدم، الذي خرجه البخاري. وإذا كان كذلك، فمعنى قوله : سيقول، أنهم مستمرون على هذا القول، وإن كانوا قد قالوه، فحكمة الاستقبال أنهم، كما صدر عنهم هذا القول في الماضي، فهم أيضا يقولونه في المستقبل. وليس عندنا من وضع المستقبل موضع الماضي. وإن معنى سيقول : قال، كما زعم بعضهم، لأن ذلك لا يتأتى مع السين لبعد المجاز فيه. ولو كان عاريا من السين، لقرب ذلك وكان يكون حكاية حال ماضية. والسفهاء : اليهود، قاله البراء بن عازب، ومجاهد، وابن جبير. وأهل مكة قالوا : اشتاق محمد إلى مولده، وعن قريب يرجع إلى دينكم، رواه أبو صالح، عن ابن عباس، واختاره الزجاج. أو المنافقون قالوا : ذلك استهزاء بالمسلمين، ذكره السدي، عن ابن مسعود. وقد جرى تسمية المنافقين بالسفهاء في قوله : أَلا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهاءُ «١»، أو الطوائف الثلاث الذين تقدم ذكرهم من الناس.
قال ابن عطية وغيره : وخص بقوله من الناس، لأن السفه أصله الخفة، يوصف به الجماد. قالوا : ثوب سفيه، أي خفيف النسج والهلهلة، ورمح سفيه : أي خفيف سريع النفوذ. ويوصف به الحيوانات غير الناس، فلو اقتصر، لاحتمل الناس وغيرهم، لأن القول ينسب إلى الناس حقيقة، وإلى غيرهم مجازا،
(١) سورة البقرة : ٢/ ١٣.