البحر المحيط، ج ٣، ص : ١٢٠
ذلك، لأنه خص فيه مريم وابنها عيسى دون سائر الأنبياء، ولأنه لو وجد المس لنفي أثره، ولو نفي لدام الصراخ والبكاء، فلما لم يكن كذلك علمنا بطلان هذا الحديث.
وقال الزمخشري : وما
يروى في الحديث :«ما من مولولد يولد إلا والشيطان يمسه حين يولد فيستهل صارخا من مس الشيطان إياه إلّا مريم وابنها».
فاللّه أعلم بصحته، فإن صح فمعناه : أن كل مولود يطمع الشيطان في اغوائه إلّا مريم وابنها، فإنهما كانا معصومين. وكذلك كل من كان في صفتهما لقوله : لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ إِلَّا عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ «١» واستهلاله صارخا من مسه، تخييل وتصوير لطمعه فيه كأنه يمسه ويضرب بيده عليه ويقول : هذا ممن أغويه، ونحوه من التخييل قول ابن الرومي :
لما تؤذن الدنيا به من صروفها يكون بكاء الطفل ساعة يولد
وأما حقيقة المس والنخس كما يتوهم أهل الحشو فكلا، ولو سلط إبليس على الناس بنخسهم لامتلأت الدنيا صراخا وعياطا مما يبلونا به من نخسه. انتهى كلامه. وهو جار على طريقة أهل الاعتزال، وقد مر لنا شيء من الكلام على هذا في قوله : الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطانُ مِنَ الْمَسِّ «٢».
فَتَقَبَّلَها رَبُّها بِقَبُولٍ حَسَنٍ قال الزجاج : الأصل فتقبلها بتقبل حسن، ولكن قبول محمول على : قبلها قبولا، يقال : قبل الشيء قبولا والقياس فيه الضم : كالدخول والخروج، ولكنه جاء بالفتح، وأجاز الفراء والزجاج ضم القاف، ونقلها ابن الأعرابي فقال : قيلته قبولا وقبولا. وقال ابن عباس : معناه سلك بها طريق السعداء. وقال قوم : تكفل بتربيتها والقيام بشأنها. وقال الحسن : معناه لم يعذبها ساعة قط من ليل ولا نهار. وعلى هذه الأقوال يكون تقبل بمعنى استقبل، فيكون تفعل بمعنى استفعل، أي : استقبلها ربها، نحو : تعجلت الشيء فاستعجلته، وتقصيت الشيء واستقصيته، من قولهم : استقبل الأمر أي أخذه بأوله. قال :
وخير الأمر ما استقبلت منه وليس بأن تتبعه اتباعا
أي فأخذها في أول أمرها حين ولدت. وقيل : المعنى فقبلها أي : رضي بها في النذر مكان الذكر في النذر كما نذرت أمها وسنى لها الأمل في ذلك، وقبل دعاءها في قولها : فتقبل
(١) سورة الحجر : ١٥/ ٣٩ وص : ٣٨/ ٨٢.
(٢) سورة البقرة : ٢/ ٢٧٥.