البحر المحيط، ج ٣، ص : ٣٨٨
ليسليكم وينفس عنكم، كيلا تحزنوا على ما فاتكم من نصر اللّه، ولا على ما أصابكم من غلبة العدوّ انتهى كلامه. وهو خلاف الظاهر. لأن المسند إليه الأفعال السابقة هو اللّه تعالى، وذلك في قوله : وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ «١» وقوله : ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ «٢» وَلَقَدْ عَفا عَنْكُمْ «٣» واللّه فيكون قوله : فأثابكم مسندا إلى اللّه تعالى. وذكر الرسول إنما جاء في جملة حالية نعى عليهم فرارهم مع كون من اهتدوا على يده يدعوهم، فلم يجىء مقصودا لأن يحدث عنه، إنما الجملة التي ذكر فيها في تقدير المفرد إذ هي حال. وقال الزمخشري : فأثابكم عطف على صرفكم انتهى. وفيه بعد لطول الفصل بين المتعاطفين. والذي يظهر أنه معطوف على تصعدون ولا تلوون، لأنه مضارع في معنى الماضي، لأن إذ تصرف المضارع إلى الماضي، إذ هي ظرف لما مضى. والمعنى : إذ صعدتم وما لويتم على أحد فأثابكم.
لِكَيْلا تَحْزَنُوا عَلى ما فاتَكُمْ وَلا ما أَصابَكُمْ اللام لام كي، وتتعلق بقوله :
فأثابكم. فقيل : لا زائدة لأنه لا يترتب على الاغتمام انتفاء الحزن. فالمعنى : على أنه غمهم ليحزنهم عقوبة لهم على تركهم موافقتهم قاله : أبو البقاء وغيره. وتكون كهي في قوله : لِئَلَّا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتابِ «٤» إذ تقديره : لأن يعلم. ويكون أعلمهم بذلك تبكيتا لهم، وزجرا أن يعودوا لمثله. والجمهور على أن لا ثابتة على معناها من النفي. واختلفوا في تعليل الإثابة بانتفاء الحزن على ما ذكر.
فقال الزمخشري : لكيلا تحزنوا لتتمرّنوا على تجرع الغموم، وتضروا باحتمال الشدائد، فلا تحزنوا فيما بعد على فائت من المنافع، ولا على مصيب من المضار انتهى.
فجعل العلة في الحقيقة ثبوتية، وهي التمرن على تجرع الغموم والاعتياد لاحتمال الشدائد، ورتب على ذلك انتفاء الحزن، وجعل ظرف الحزن هو مستقبل لا تعلق له بقصة أحد، بل لينتفي الحزن عنكم بعد هذه القصة. وقال ابن عطية : المعنى لتعلموا أن ما وقع بكم إنما هو بجنايتكم، فأنتم أذيتم أنفسكم. وعادة البشر أنّ جاني الذنب يصبر للعقوبة، وأكثر قلق المعاقب وحزنه إنما وقع هو مع ظنه البراءة بنفسه انتهى. وهذا تفسير مخالف لتفسير الزمخشري. ومن المفسرين من ذهب إلى أن قوله : لكيلا تحزنوا متعلق بقوله : ولقد عفا عنكم، ويكون اللّه أعلمهم بذلك تسلية لمصابهم وعوضا لهم عن ما أصابهم من الغم، لأن عفوه يذهب كل غم. وفيه بعد لطول الفصل، ولأن ظاهره تعلقه بمجاور، وهو فأثابكم.
(١) سورة آل عمران : ٣/ ١٥٢.
(٢) سورة آل عمران : ٣/ ١٥٢.
(٣) سورة آل عمران : ٣/ ١٥٢.
(٤) سورة الحديد : ٢٩/ ٥٧.