البحر المحيط، ج ٣، ص : ٣٩٨
طلحة
، وظاهر تولوا يدل على مطلق التولي يوم اللقاء، سواء فرّ إلى المدينة، أم صعد الجبل.
والجمع : اسم جمع. ونص النحويون على أن اسم الجمع لا يثنى، لكنه هنا أطلق يراد به معقولية اسم الجمع، بل بعض الخصوصيات. أي : جمع المؤمنين، وجمع المشركين، فلذلك صحت تثنيته. ونظير ذلك قوله :
وكل رفيقي كلّ رحل وإن هما تعاطى القنا قوما هما إخوان
فثنى قوما لأنه أراد معنى القبيلة. واستزل هنا استفعل لطلب، أي طلب منهم الزلل ودعاهم إليه، لأن ذلك هو مقتضى وسوسته وتخويفه، هكذا قالوه. ولا يلزم من طلب الشيء واستدعائه حصوله، فالأولى أن يكون استفعل هنا بمعنى أفعل، فيكون المعنى :
أزلهم الشيطان، فيدل على حصول الزلل، ويكون استزل وأزل بمعنى واحد، كاستبان وأبان، واستبل وأبل كقوله تعالى : فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطانُ عَنْها «١» على أحد تأويلاته.
واستزلال الشيطان إياهم سابق على وقت التولي، أي كانوا أطاعوا الشيطان واجترحوا ذنوبا قبل منعتهم النصر ففروا. وقيل : الاستزلال هو توليهم ذلك اليوم. أي : إنما استزلهم الشيطان في التولي ببعض ما سبقت لهم من الذنوب، لأن الذنب يجرّ إلى الذنب، فيكون نظير ذلك بما عصوا. وفي هذين القولين يكون بعض ما كسبوا هو ذنوب سلفت لهم. قال الحسن : استزلهم بقبول ما زين لهم من الهزيمة.
وقيل : بعض ما كسبوا هو تركهم المركز الذي أمرهم رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم بالثبات فيه، فجرهم ذلك إلى الهزيمة. ولا يظهر هذا لأنّ الذين تركوا المركز من الرماة كانوا دون الأربعين، فيكون من باب إطلاق اسم الكل على البعض. وقال المهدوي : ببعض ما كسبوا هو حبهم الغنيمة، والحرص على الحياة. وذهب الزجاج وغيره إلى أن المعنى : إن الشيطان ذكرهم بذنوب لهم متقدمة، فكرهوا الموت قبل التوبة منها والإقلاع عنها، فأخروا الجهاد حتى يصلحوا أمرهم ويجاهدوا على حالة مرضية. ولا يظهر هذا القول لأنهم كانوا قادرين على التوبة قبل القتال وفي حال القتال،
«والتائب من الذنب كمن لا ذنب له»
وظاهر التولي : هو تولي الإدبار والفرار عن القتال، فلا يدخل فيه من صعد إلى الجبل، لأنه من متحيز إلى جهة اجتمع في التحيز إليها رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم ومن ثبت معه فيها. وظاهر هذا التولي
(١) سورة البقرة : ٢/ ٣٦.