البحر المحيط، ج ٣، ص : ٤٠٤
أي غما على ما فاتهم، إذ لم يبلغوا مقصدهم من التثبيط عن الجهاد. وظاهر جعل الحسرة وحصولها أنه يكون ذلك في الدنيا وهو الغم الذي يلحقهم على ما فات من بلوغ مقصدهم. وقيل : الجعل يوم القيامة لما هم فيه من الخزي والندامة، ولما فيه المسلمون من النعيم والكرامة. وأسند الجعل إلى اللّه، لأنه هو الذي يضع الغم والحسرة في قلوبهم عقوبة لهم على هذا القول الفاسد.
وَاللَّهُ يُحْيِي وَيُمِيتُ رد عليهم في تلك المقالة الفاسدة، بل ذلك بقضائه الحتم والأمر بيده. قد يحيي المسافر والغازي، ويميت المقيم والقاعد. وقال خالد بن الوليد عنه موته : ما فيّ موضع شبر إلا وفيه ضربة أو طعنة، وها أنا ذا أموت كما يموت البعير، فلا نامت أعين الجبناء. وقيل : هذه الجملة متعلقة بقوله : يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ كَفَرُوا وَقالُوا «١» أي : لا تقولوا مثل قولهم، فإن اللّه هو المحيي، من قدر حياته لم يقتل في الجهاد، والمميت من قدر له الموت لم يبق وإن لم يجاهد، قاله : الرازي. وقال أيضا :
المراد منه إبطال شبهتهم، أي لا تأثير لشيء آخر في الحياة والموت، لأن قضاءه لا يتبدل.
ولا يلزم ذلك في الأعمال، لأنّ له أن يفعل ما يشاء انتهى. ورد عليه هذا الفرق بين الموت والحياة وسائر الأعمال، لأن سائر الأعمال مفروغ منها كالموت والحياة، فما قدر وقوعه منها فلا بد من وقوعه، وما لم يقدر فيستحيل وقوعه، فإذا لا فرق.
وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ قال الراغب : علق ذلك بالبصر لا بالسمع، وإن كان الصادر منهم قولا مسموعا لا فعلا مرئيا. لما كان ذلك القول من الكافر قصدا منهم إلى عمل يحاولونه، فخص البصر بذلك كقولك لمن يقول شيئا وهو يقصد فعلا يحاوله : أنا أرى ما تفعله. وقرأ ابن كثير والأخوان بما يعملون بالياء على الغيبة، وهو وعيد للمنافقين.
وقرأ الباقون بالتاء على خطاب المؤمنين، كما قال : لا تكونوا، فهو توكيد للنهي ووعيد لمن خالف، ووعد لمن امتثل.
وَلَئِنْ قُتِلْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوْ مُتُّمْ لَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَحْمَةٌ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ تقدم قبل هذا تكذيب الكفار في دعواهم : أنّ من مات أو قتل في سفر وغزو لو كان أقام ما مات وما قتل، ونهى المؤمنين عن أن يقولوا مثل هذه المقالة، لأنها سبب للتخاذل عن الغزو وأخبر في هذه الجملة أنه أن تم ما يحذرونه من القتل في سبيل اللّه أو الموت فيه، فما

_
(١) سورة آل عمران : ٣/ ١٥٦. [.....]


الصفحة التالية
Icon