البحر المحيط، ج ٣، ص : ٤٠٧
وتقدّم القتل على الموت بعد، لأنه محل تحريض على الجهاد، فقدم الأهم والأشرف.
وقدم الموت هنا لأنه الأغلب، ولم يؤكد الفعل الواقع جوابا للقسم المحذوف لأنه فصل بين اللام المتلقى بها القسم وبينه بالجار والمجرور. ولو تأخر لكان : لتحشرن إليه كقوله :
ليقولن ما يحبسه. وسواء كان الفصل بمعمول الفعل كهذا، أو بسوف. كقوله : فَلَسَوْفَ تَعْلَمُونَ «١» أو بقد كقول الشاعر :
كذبت لقد أصبى على المرء عرسه وأمنع عرسي أن يزن بها الخالي
قال أبو علي : الأصل دخول النون فرقا بين لام اليمين ولام الابتداء، ولام الابتداء لا تدخل على الفضلات، فبدخول لام اليمين على الفضلة وقع الفصل، فلم يحتج إلى النون. وبدخولها على سوف وقع الفرق، فلم يحتج إلى النون، لأن لام الابتداء لا تدخل على الفعل إلا إذا كان حالا، أمّا إذا كان مستقبلا فلا.
فَبِما رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ متعلق الرحمة المؤمنون. فالمعنى : فبرحمة من اللّه عليهم لنت لهم، فتكون الرحمة امتن بها عليهم. أي : دمثت أخلاقك ولان جانبك لهم بعد ما خالفوا أمرك وعصوك في هذه القراءة، وذلك برحمة اللّه إياهم. وقيل : متعلق الرحمة المخاطب صلّى اللّه عليه وسلّم، أي برحمة اللّه إياك جعلك لين الجانب موطأ الأكناف، فرحمتهم ولنت لهم، ولم تؤاخذهم بالعصيان والفرار وإفرادك للأعداء، ويكون ذلك امتنانا على رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم. ويحتمل أن يكون متعلق الرحمة النبي صلّى اللّه عليه وسلّم بأن جعله على خلق عظيم، وبعثه بتتميم محاسن الأخلاق والمؤمنين، بأن لينه لهم.
وما هنا زائدة للتأكيد، وزيادتها بين الباء وعن ومن والكاف، وبين مجروراتها شيء معروف في اللسان، مقرر في علم العربية. وذهب بعض الناس إلى أنها منكرة تامة، ورحمة بدل منها. كأنه قيل : فبشيء أبهم، ثم أبدل على سبيل التوضيح، فقال : رحمة.
وكان قائل هذا يفر من الإطلاق عليها أنهار زائدة. وقيل : ما هنا استفهامية. قال الرازي :
قال المحققون : دخول اللفظ المهمل الوضع في كلام أحكم الحاكمين غير جائز، وهنا يجوز أن تكون ما استفهامية للتعجب تقديره : فبأي رحمة من اللّه لنت لهم، وذلك بأن جنايتهم لما كانت عظيمة ثم أنه ما أظهر البتة تغليظا في القول، ولا خشونة في الكلام، علموا أنّ هذا لا يتأتى إلا بتأييد رباني قبل ذلك انتهى كلامه. وما قاله المحققون :

_
(١) سورة الشعراء : ٢٦/ ٤٩.


الصفحة التالية
Icon