البحر المحيط، ج ٣، ص : ٤٠٩
ولذلك عز على عليّ وأهل البيت كونهم استبد عليهم في المشورة في خلافة أبي بكر الصديق رضي اللّه عنهم أجمعين، وفيما ذا أمر أن يشاورهم. قيل : في أمر الحرب والدنيا وقيل : في الدين والدنيا ما لم يرد نص، ولذلك استشار في أسرى بدر.
وظاهر هذه الأوامر يقتضي أنه أمر بهذه الأشياء، ولا تدل على تريب زماني. وقال ابن عطية : أمر بتدريج بليغ، أمر بالعفو عنهم فيما يخصه، فإذا صاروا في هذه الدرجة أمر بالاستغفار فيما للّه، فإذا صاروا في هذه الدرجة صاروا أهلا للاستشارة في الأمور انتهى.
وفيه بعض تلخيص، ولا يظهر هذا التدريج من اللفظ، ولكن هذه حكمة تقديم هذه الأوامر بعضها على بعض. أمر أولا بالعفو عنهم، إذ عفوه عنهم مسقط لحقه، ودليل على رضاه صلّى اللّه عليه وسلّم عليهم، وعدم مؤاخذته. ولما سقط حقه بعفوه استغفر لهم اللّه ليكمل لهم صفحه وصفح اللّه عنهم، ويحصل لهم رضاه صلّى اللّه عليه وسلّم ورضا اللّه تعالى. ولما زالت عنهم التبعات من الجانبين شاورهم إيذانا بأنهم أهل للمحبة الصادقة والخلة الناصحة، إذ لا يستشير الإنسان إلا من كان معتقدا فيه المودة والعقل والتجربة. والظاهر أن قوله : فاعف عنهم أمر له بالعفو. وقيل : معناه سلني العفو عنهم لأعفو عنهم، والمعفو عنه والمسئول الاستغفار لأجله. قيل : فرارهم يوم أحد، وترك إجابته، وزوال الرّماة عن مراكزهم. وقيل : ما يبدون من هفواتهم وألسنتهم من السقطات التي لا يعتقدونها، كمناداتهم من وراء الحجرات. وقول بعضهم : إن كان ابن عمتك وجر رداءه حتى أثر في عنقه، وغير ذلك مما وقع منهم على سبيل الهفوة. ومن غريب النقول والمقول وضعيفه الذي ينزه عنه القرآن قول بعضهم : أن قوله تعالى : وشاورهم في الأمر، أنه من المقلوب. والمعنى : وليشاوروك في الأمر. وذكر المفسرون هنا جملة مما ورد في المشاورة من الآيات والأحاديث والآثار. وذكر ابن عطية :
إن الشورى من قواعد الشريعة وعزائم الأحكام، ومن لا يستشير أهل العلم والدّين فعزله واجب، هذا ما لا خلاف له. والمستشار في الدّين عالم دين، وقلّ ما يكون ذلك إلا في عاقل. قال الحسن : ما كمل دين امرئ لم يكمل عقله، وفي الأمور الدنيوية عاقل مجرب واد في المستشير انتهى كلام ابن عطية، وفيه بعض تلخيص. وقراءة الجمهور : في الأمر، وليس على العموم. إذ لا يشاور في التحليل والتحريم. والأمر : اسم جنس يقع للكل وللبعض. وقرأ ابن عباس : في بعض الأمر فَإِذا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ أي : فإذا عقدت قلبك على أمر بعد الاستشارة فاجعل تفويضك فيه إلى اللّه تعالى، فإنه العالم بالأصلح لك، والأرشد لأمرك، لا يعلمه من أشار عليك. وفي هذه الآية دليل على المشاورة وتخمير