البحر المحيط، ج ٣، ص : ٤٧٨
يريد : وسافع. فكذلك يجوز ذلك هنا في أو، أن تكون بمعنى الواو، لأنه لما ذكر عمل عامل دل على العموم، ثم أبدل منه على سبيل التأكيد، وعطف على أحد الجزئين ما لا بد منه، لأنه لا يؤكد العموم إلا بعموم مثله، فلم يكن بدّ من العطف حتى يفيد المجموع من المتعاطفين تأكيد العموم، فصار نظير من بين ملجم مهره أو سافع. لأنّ بين لا تدخل على شيء واحد، فلا بد من عطف مصاحب مجرورها.
ومعنى بعضكم من بعض : أي مجمع ذكوركم وإناثكم أصل واحد، فكل واحد منكم من الآخر أي من أصله. فإذا كنتم مشتركين في الأصل، فكذلك أنتم مشتركون في الأجر وتقبل العمل. فيكون من هنا تفيد التبعيض الحقيقي، ويشير بذلك الاشتراك الأصلي إلى الاشتراك في الأجر على حدّ واحد. وقيل : معناه بعضكم من بعض في الدين والنصرة، والمعنى : أن وصف الإيمان يجمعهم، كما
جاء «المسلمون تتكافا دماؤهم»
وقيل : معناه الذكور من الإناث، والإناث من الذكور، فكذلك الثواب. فكما اشتركوا في هذه البعضية كذلك اشتركوا في الأجر والثواب. ومحصول معنى هذه الجملة : أنه جيء بها لتبيين شركة النساء مع الرجال فيما وعد اللّه به عباده العاملين، وقد تقدّم ذكر سبب نزولها وهو : سؤال أم سلمة وخرّجه الحاكم في صحيحه.
فَالَّذِينَ هاجَرُوا وَأُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي لما ذكر تعالى أنه لا يضيع عمل عامل، ذكر من عمل الأعمال السنية التي يستحق بها أن لا يضيع عمله، وأن لا يترك جزاؤه. فذكر أولا الهجرة وهي : الخروج من الوطن الذي لا يمكن إقامة دينه فيه إلى المكان الذي يمكن ذلك فيه، وهذا من أصعب شيء على الإنسان، إذ هو مفارقة المكان الذي ربا فيه ونشأ مع أهله وعلى طريقتهم، ولو لا نوازع الغوى المربى على وازع النشأة ما أمكنه ذلك. ألا ترى لقول الشاعر هما لابن الرومي :
وحبب أوطان الرجال إليهم مآب قضاها الشباب هنالكا
إذا ذكروا أوطانهم ذكرتهم عهود الصبا فيها فحنوا لذلكا
وقال ابن الصفي رفاعة بن عاصم الفقعسي :
أحب بلاد اللّه ما بين منعج إليّ وسلمى أن يصوب سجابها
بلاد بها نيطت عليّ تمائمي وأوّل أرض مسّ جلدي ترابها
بها طال تجراري ردائي حقبة وزينت ريّا الحجل درم كعابها


الصفحة التالية
Icon