البحر المحيط، ج ٣، ص : ٥٦٤
الآخرة، فكذلك هذا الذي حضره الموت. قال الزمخشري : سوى بين الذين سوفوا توبتهم إلى حضرة الموت، وبين الذين ماتوا على الكفر أنه لا توبة لهم، لأن حضرة الموت إلى أحوال الآخرة. فكما أنّ الميت على الكفر قد فاتته التوبة على اليقين، فكذلك المسوف إلى حضرة الموت، لمجاوزة كل واحد منهما. أو أنّ التكليف والاختيار انتهى كلامه. وهو على طريق الاعتزال. زعمت المعتزلة أن العلم باللّه في دار التكليف يجوز أن يكون نظريا، فإذا صار العلم باللّه ضروريا سقط التكليف. وأهل الآخرة لأجل مشاهدتهم أهوالها يعرفون اللّه بالضرورة، فلذلك سقط التكليف. وكذلك الحالة التي يحصل عندها العلم باللّه على سبيل الاضطرار. والذي قاله المحققون : إن القرب من الموت لا يمنع من قبول التوبة، لأن جماعة من بني إسرائيل أماتهم اللّه، ثم أحياهم وكلفهم، فدل على أنّ مشاهدة الموت لا تخل بالتكليف، ولأن الشدائد التي تلقاها عند قرب الموت ليست أكثر مما تلقاها بالقولنج والطلق وغيرهما، وليس شيء من هذه يمنع من بقاء التكليف، فكذلك تلك. ولأنّه عند القرب يصير مضطرا فيكون ذلك سببا للقبول، ولكنه تعالى يفعل ما يشاء. وعد بقبول التوبة في بعض الأوقات، وبعدله أخبر عن عدم قبولها في وقت آخر، وله أن يجعل المقبول مردودا، والمردود مقبولا، لا يُسْئَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْئَلُونَ «١» وقد رد على المعتزلة في دعواهم سقوط التكليف بالعلم باللّه إذا صار ضرورة، وفي دعواهم أنّ مشاهدة أحوال الآخرة يوجب العلم باللّه على سبيل الاضطرار.
وقال الربيع : نزلت وليست التوبة في المسلمين، ثم نسخها : إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ «٢» فحتم أن لا يغفر للكافرين، وأرجى المؤمنين إلى مشيئته. وطعن على ابن زيد : بأن الآية خبر، والأخبار لا تنسخ. وأجيب : بأنها تضمنت تقرير حكم شرعي، فيجوز نسخ ذلك الحكم، ولا يحتاج إلى ادعاء نسخ، لأن هذه الآية لم تتضمن أنّ من لا توبة له مقبولة من المؤمنين لا يغفر له، فيحتاج أن ينسخ بقوله : ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء. وظاهر قوله : ولا الذين يموتون وهم كفار أن هؤلاء مغايرون لقوله : للذين يعملون السيئات، لأنّ أصل المتعاطفين أن يكونا غيرين، وللتأكيد بلا المشعرة بانتفاء الحكم عن كل واحد تقول : هذا ليس لزيد وعمرو بل لأحدهما، وليس هذا لزيد ولا لعمرو، فينتفي عن كل واحد منهما، ولا يجوز أن تقول : بل لأحدهما، وإذا

_
(١) سورة الأنبياء : ٢١/ ٢٣.
(٢) سورة النساء : ٤/ ٤٨.


الصفحة التالية